واعلم أنّ أثرتك على غير النصيحة والشّفقة، والحرمة والكفاية، يوجب [لك] المباعدة وقلّة الثقة ممن آثرته أو آثرت عليه.
فاعرف لأهل البلاء- ممّن جرت بينك وبينه مودّق أو حرمه، ممن فوقك أو دونك أو نظرائك- أقدارهم ومنازلهم. ثمّ لتكن امورك معهم على قدر البلاء والاستحقاق، ولا تؤثر في ذلك أحدا لهوى، فإنّ الأثرة على الهوى توجب السّخطة، وتوجب استصغار عظيم النّعمة، ويمحق بها الإفضال، وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت ومن آثرت عليه.
أما من آثرت فإنّه يعلم أنّك لم تؤثره باستحاق بل لهوى، فهو مترقّب أن ينتقل هواك إلى غيره، فتحول أثرتك حيث مال هواك. فهو مدخول القلب في مودّتك، غير آمن لتغيّرك.
وأمّا من آثرت عليه بعد الاستحقاق منه فقد جعلت له السبيل إلى الطّعن عليك، وأعطيته الحجّة على نفسك. فكلّ من يعمل على غير ثقة عاد ما أراد به النّفع ضررا والإصلاح [فيه] فسادا.
وربّما آثر الرجل المرء من إخوانه بالعطية السنيّة على بلاء أبلاه، فيعضم قدرها عنده حتّى لعلّه تطيب نفسه ببذل ماله ودمه دونه. فإن أعطى من أبى كبلائه وكانت له مثل دالّته، أكثر ممّا أعطاه، انتقل كلّ محمود من ذلك مذموما، وكل مستحسن مستقبحا. وكذلك الأمر في العقوبة، يجريان مجرى واحدا.
فاجعل العدل والنّصفة في الثّواب والعقاب حاكما بينك وبين إخوانك، فمن قدّمت منهم فقدّمه على الاستحقاق، وبصحة النّيّة في مودته، وخلوص نصيحته لك ممّا قد بلوت من أخلاقه وشيمه، وعلمت بتجربتك له، أنّه يعلم أنّ صلاحه موصول بصلاحك، وعطبه كائن مع عطبك، ففوّض الأمر إليه، وأشركه في خواصّ أمورك وخفيّ أسرارك، ثمّ أعرف قدره في مجلسك ومحاورتك ومعاملتك، في كلّ حالاتك ومزاولاتك في خلواتك معه، وبحضرة جلسائك، فإنّ ذلك زيادة في نيته، وداعية لمن دونه إلى التقرب إليك بمثل نصيحته.