وجميع ما تستلذ الحواسّ من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطّعوم الطّيّبة، والأصوات المونقة، والملامس اللّذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه.
فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غراز في الفطر، وكوامن في الطّبع، جبلّة ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنّها في بعض أكثر منها في بعض، ولا يعلم قدر القلّة فيه والكثرة إلا الذي دبّرهم.
فلمّا كانت هذه طباعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذّ لجميع حواسّهم، فتعلّقت به قلوبهم، وتطلّعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكّن لهم من الأرزاق المشتهاة في طباعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارّ. وإذا ذهبا كان ذلك سببا للفساد، وانقطاع التّناسل، وفناء الدّنيا وأهلها، لأنّ طبع النفس لا يسلس بعطيّة قليل ولا كثير مما حوته، حتّى تعوّض أكثر مما تعطي، إمّا عاجلا وإما آجلا مما تستلذّه حواسّها.
فعلم الله أنّهم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلّا بالتأديب، وأنّ التأديب ليس إلّا بالأمر والنّهي، [وأنّ الأمر والنهي] غير ناجعين فيهم إلّا بالترغيب والترهيب اللذين في طباعهم. فدعاهم بالتّرغيب إلى جنّته، وجعلها عوضا ممّا تركوا في جنب طاعته، وزجرهم بالتّرهيب بالنار عن معصيته، وخوّفهم بعقابها على ترك أمره. ولو تركهم جلّ ثناؤه والطّباع الأوّل جروا على سنن الفطرة، وعادة الشّيمة.
ثم أقام الرّغبة والرّهبة على حدود العدل، وموازين النّصفة، وعدّلهم تعديلا متّفقا، فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.