ومن الدليل على ذلك، أنّه لم ير كاتب قطّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقّه في الدّين شعاره، ولا الحفظ للسّنن والآثار عماده، فإن وجد الواحد منهم ذاكرا شيئا من ذلك لم يكن لدوران فكّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السّعي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه ألّافه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله.
قال الزّهريّ لرجل: أيعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلّا الفحول من الرّجال، ولا يبغضه إلّا إناثهم! ولئن وافق هذا القول من الزّهري فيهم مذهبا، إنّ ذلك لبيّن في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.
وسئل ثمامة بن أشرس يوما، وقد خرج من عند عمرو بن مسعدة، فقيل له: يا أبا معن، ما رأيت من معرفة هذا الرّجل وبلوت من فهمه؟
فقال: ما رأيت قوما نفرت طبائعهم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز- فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالتهم، والفحص والنظر قائد غيّهم، والحكمة معدن شبههم-[أكثر] من الكتّاب.
وذكر أبو بكر الأصمّ ابن المقفّع فقال: ما رأيت شيئا إلّا وقليله أخفّ من كثيره إلّا العلم، فإنّه كلّما كثر خفّ محمله. ولقد رأيت عبد الله ابن المقفّع هذا في غزارة علمه وكثرة روايته، كما قال الله عزّ ذكره: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
. قد أوهنه علمه، وأذهله حلمه، وأعمته حكمته،