انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجل من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقّ قال من قال: «لم ير ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإنّ نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام» .
وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدّ لصوقا منه بغيرهم من الملوك والسّوقة. وكأنّ من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كلّ ما يرد عليه من طريف أدب، أو أنيق كلام، أو بديع معنى. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرّ في روعه لخساسته، أنّه لا ينال أحد منهم رياسة في صناعة، ولا يتهيّأ له سياسة أهلها، إلّا بالطّعن على نواصيهم، والعيب لجلّتهم، والتحيّف لحقوقهم.
قال لي مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر، الذي يعرف بصريع الغواني: خيّل إلى نوكى الشّعراء أنّهم لا يقضى لهم بجودة الشّعر إلّا بهجائي والطّعن في شعري، ولسان يهجى به عرضي، لا أنفكّ متّهما من غير جرم، إلّا ما سبق إلى قلوبهم من وساوس الظنون والخواطر التي أوهمتهم أنه لا يسجّل لهم بجودة الشعر إلّا إذا استعملوا فيّ ما خيّل إليهم.
وأخبرني أشياخنا من أهل خراسان أنّ أبا الصّلت الهرويّ كان عند الفضل بن سهل ذي الرياستين بمرو، فقرأ عليه كتابا ألّفه النّضر بن شميل، فطعن أبو الصّلت فيه، وكان الفضل عارفا بالنضر الشّميلي، واثقا بعلمه، مائلا إليه، فأقبل على أبي الصّلت وقال له: إن يحيى بن خالد قال يوما: إنّ كتبي لتعرض على من يغلظ فهمه عن معرفتها، ويجسو ذهنه عنها، ولا يبلغ أقصى علمه ما فيها- يعرّض بإسماعيل بن صبيح- فيطعن فيها ولا يدري ما يقرأ عليه منها. إلّا أن نار الحسد تلهبه فيهذي هذيان المريض، ويهمز همزات الغيرى، ثم لا يرضى أن يقف عند أوّل الطعن ويميل عنه حتّى يستقصي على نفسه إظهار جهله عند أهل المعرفة، باستيعابه الطّعن على ما