أوائلها؛ فإنّ معك قلبا به من اليقظة والذكاء، والتوقّد والحفظ، ما يكفي معه النّظر الخاطف.
إنه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلّا وفيه علماء محقّون، قد قرأوا كتب من تقدّمهم، ودارسوا أهلها، ومارسوا [الموافقين] لهم، وعانوا المخالفين عليهم، فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمّهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا ما بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي، واستنبطوا الغامض الباطن بالظاهر البيّن، واستظهروا على الخفيّ المشكل بالمكشوف المعروف، وعرفوا بالفهم الثّاقب والعلم الناصع، وقضت لهم المحنة بالذكاء والفطنة، فوضعوا الكتب في ضروب العلوم وفنون الآداب لأهل زمانهم، والأخلاف من بعدهم.
يزدلفون بذلك إلى الممتنّ عليهم بفضل المعرفة التي ركّبها الله فيهم، وأبانهم من غيرهم، وفضّلهم عليهم، ويباهون به الأمم المخالفة لهم، ويتبارون بذلك فيما بينهم، ولهم حسّاد معارضون من أهل زمانهم في تلك العلوم والكتب، منتحلة يدّعون مثل دعاويهم، قد وسموا أنفسهم بسمات الباطل، وتسمّوا بأسماء العلم على المجاز من غير حقيقة، ولبسوا لباس الزّور متزخرفين متشبّعين بما لا محصول له، يحتذون أمثلة المحقّين في زيّهم وهديهم، ويقتفون آثارهم في ألفاظهم وألحاظهم، وحركاتهم وإشاراتهم، لينسبوا إليهم ويحلّوا محلّهم، فاستمالوا بهذه الحيلة قلوب ضعفاء العامّة، وجهلاء الملوك، واتّخذهم المعادون للعلماء المحقّين عدّة يستظهرون بهم عند العامّة. وحمل المدّعية للعلم المزوّر الحسد على بهت العلماء المحقّين،