جعلت فداك، إنّي قد أحصيت جميع أسباب التعادي، وحصّلت جميع علل التضاغن، إلّا علّة عداوة الشيطان للإنسان؛ فإنّي لا أعرف إلّا مجازها في الجملة ولا أحقّ خاصّتها على التحصيل. وعلى حال فقد عرفتها من طريق الجملة وإن جهلتها من طريق التفصيل. فأما هذا التجنّي فلم أعرفه في خاصّ ولا عامّ.
فمن أسباب العداوات تنافس الجيران والقرابات، وتحاسد الأشكال في الصناعات. ومن أمتن أسبابهم إلى الشرّ وأسرعها إلى المروءة والعقل، وأقدحها في العرض وأحطبها على الدين، التشاحّ على المواريث، والتنازع في تخوم الأرضين. فإن اتّفق أن يكون بين المتشاكلين في القرابة كان السبب أقوى، والداء أدوى. وعلى حساب ذلك إن جمعت هذه الخصومة مع الجوار والقرابة واستواء الحظّ في الصناعة. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى قضاته: أن ردّوا القرابات عن حرا القضاء فإن ذلك يورث التضاغن.
ولم أعجب من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر متجاورة، ومنازلنا بمدينة السّلام متقابلة، ونحن ننظر في علم واحد، ونرجع في النحلة إلى مذهب واحد؛ ولكن اشتدّ عجبي منك اليوم وأنا بفرغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب كلام وأنت صاحب نتاج، وصناعتك جودة الخطّ وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتب وأنا أمّي، وأنت خراجيّ وأنا عشريّ، وأنت زرعيّ وأنا نخليّ. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم، كان ذلك إلى العداوة سببا، وإلى المنافسة سلّما.
أنت أبقاك الله شاعر وأنا راوية، وأنت طويل وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركين وأنا عجول،