لم يزل يرى أنّه مثلك، وأنه يستوجب منك استيجابك، ولا سيما إذا كانت الصنيعة أنت ابتدأتها، وأنت أبو عذرتها.

فإن أنت لم تحكم له بالغاية مع اجتماع هذه العلل فيه، ومع توافيها إليه، ولم تقض له بأقصى الغاية مع ترادف هذه الأسباب وتكامل هذه الدلائل، وتعاون هذه البرهانات، فكل خبر بيّنه زور، وكلّ دلالة فاسدة.

وقد قال الأول: «دلائل الأمور أشد تثبيتا من شهادات الرجال» . إلّا أن يكون في الخبر دليل، ومع الشّهادة برهان؛ لأنّ الدليل لا يكذب ولا ينافق ولا يزيد ولا يبدّل، وشهادة الإنسان لا تمتنع من ذلك، وليس معها أمان من فساد ما كان الإمكان قائما.

[4- تفضيل النخل على الزرع سبب سخيف للعداوة]

وبعد متى صار اختيار النّخل على الزرع يحقد الإخوان، ومتى صار تفضيل الحبّ وتقريظ الثّمر يورث الهجران، ومتى تميّزوا هذا التميّز وتهالكوا هذا التهالك؟ ومتى صار تقديم النحلة ملّة، وتفضيل السنبلة نحلة؟ ومتى صار الحكم للنّعجة نسبا وللكرمة صهرا، ومتى تكون فيها ديانة وتستحكم فيها بصيرة، ويحدث عنها حميّة.

وقد كنا نعجب من حرب البسوس في ضرع ناب، ومن حرب بعاث في مخرف تمر، ومن حرب غطفان في سبق دابّة. فجئتنا أنت بنوع من العجب أبطل كلّ عجب، وآنسنا بكل غريب، وحسّن عندنا كلّ قبيح، وقرّب عندنا كلّ بعيد.

فإن جهلت- أعزّك الله- غضبك فمثلي جهل ما لا علّة له، وإن عجزت عن احتمال عقابك فمثلي ضجّ مما لا يطيق حمله. ولا عار على جازع إلّا فيما يمكن في مثله الصبر، ولا لوم على جاهل فيما لا ينجح في مثله الفكر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015