قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلّبهم في الأرحام البريئة من الآفات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويعبّيهم لكل جسيم، ويربّيهم لكل عظيم.
ولو علم هذا القائل ما كانت قريش عليه في التّحارة لعرف اختلاف السّبل، وتفاوت ما بين الطّرق. ولو كانت علّتهم في ذلك كعلّة تجّار الأبلّة، ومحتكري أهل الحيرة، لثلمت دقّة التجارة في أعراضهم ولنهك سخف التربّح من مروءاتهم، ولصغّر ذلك من أقدارهم في صدور العرب، ولوضع من علوّهم عند أهل الشرف. وكيف وقد ارتحلت أليهم الشّعراء كما ارتحلت الى الملوك العظماء، فأسنوا لهم العطيّة، ولم يقصّروا عن غاية، فسقوا الحجيج وأقاموا القرى لزوّار الله تعالى، وهم بواد غير ذي زرع. فلو أنّه كان معهم من الفضل ما يبهر العقول، ومن المجد ما تحرج فيه العيون، لما أصلح طبائعهم الشيء الذي يفسد جميع الأمة. ولقد أورث ذلك صدورهم من السّعة بقدر ما أورث غيرهم من الضّيق. ولو كانت سبلهم عند الملوك إذا وفدوا عليهم، أو وردوا بلادهم بالتجارات، سبل غيرهم من التّجّار لما أوجهوهم وقرّبوهم، ولما أقاموا لهم قرى الملوك وحبوهم بكرامة الخاصّ.
وإذا كانت قريش حمسا تنسّك في دينها، وتتألّه في عبادتها وكان مانعا.
لهم من الغارات والسّباء، ومن وطء النّساء من جهة المغنم، ولذلك لم يئدوا البنات ولا ولدت منهم امرأة غيرهم من جهة السّباء، ولا زوّجوا أحدا من العرب حتّى يتحمّس ويدين بدينهم. ولذلك لمّا صاروا إلى بناء الكعبة لم يخرجوا في بنائها من أموالهم إلّا مواريث آبائهم ونسائهم، خوفا من أن يخالطه شيء حرام، إذ كانت أرباح التجارات مخوفا عليها ذلك. فلما كانوا بواد غير ذي زرع ويحتاجون إلى الأقوات، وإقامة القرى، لم يجدوا بدا من أن يتكلّفوا ما يعيشهم ويصلح شأنهم، فأخذوا الإيلاف، ورحلوا إلى الملوك