فإن أريد بذلك الظنّ والشكّ والوهم الساتر للقلوب عن مطالعة الغيوب دون غيرها فمعلومٌ أنَّ مطالعة الغيب أعظم من العلم بالمشاهدات فإذا كانت المشاهدات التي يعلمها آحادُ الناس لم يُعْصَم فيها أحد من شكٍّ وظنٍّ ووهم فكيف بالغيوب لا سيما إن أراد بالغيوب ما غاب عن مشاهدة البشر مطلقًا وقد قال لأفضل الخلق قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام 50] وكذلك أخبر عن نوحٍ أول الرسل.
وأيضًا فلو قُدِّر أن هذا ممكن مع أن هذا تقديرٌ ممتنع فليس هذا مما يُقَرِّب إلى الله ولا أمرَ به أمْرَ إيجاب ولا أمْرَ استحباب فإنَّ مجرًَّد كون الرجل يعلم ما غاب عن الشاهد لا يقرِّبُ العبدَ إلى الله إنما يقرِّبه فِعْل الواجبات والمستحبات.
ولهذا قد يَطَّلع الجنُّ والشياطين على ما لا يَطَّلع عليه الصالحون وكذلك الطيور والبهائم فقد قال الهدهد لسليمان أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل 22] وقد أخبرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن البهائمَ تسمعُ أصواتَ المعذَّبِين في قبورهم ولم تكن الجن والبهائم أفضل بذلك من الصالحين والكُهَّان قد كانت الجن تخبرهم بما تَسْترقه من السمع ولم يكونوا بذلك خيرًا من الصالحين بل هم من المذمومين لا الممدوحين ونظائر ذلك متعددة.