للمستفيد موضوعاً وافياً ودرساً كافياً تحت عنوان أخلاق الشعب وعوائده، لجاء فيه على الكفاية من كلّ شعبه وأطرافه، لاسيما وأنّه موضوع دقيق يحوج إلى نظر ورويّة، ريثما يدعو إلى عشرة طويلة واحتكاك عظيم. ولعلّ الحاكم بعد ذلك على أخلاق القوم وعوائدهم يغلب الحكم عليهم تغليباً، أو يبني رأيه على القياس. وهو على كلا الحالين لا يتجاوز موقف الظنّ، ولا يتعدّى وجه الشكّ في كلّ الّذي يدّعيه، إيجاباً أو سلباً. غير أنّ ذلك لم يكن ليحول بيني وبين ما أردته من تعرّف عامة الشعب الشامي ودرس أخلاقهم على وجه الإجمال بالقدر المستطاع، ممّا عساه أن يعود ببعض الفائدة، وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه. وذلك بالطبع كاف لمن كانت مدّة سفره ذهاباً وإياباً شهراً واحداً، بل هذا ما لا يطمع في أكثر منه إلا من كان ينقطع للشيء، لا يفرغ منه حتّى يتغلغل فيه ويحيط بجميع أطرافه وحدوده. وعلى ذلك، إذا نحن ادّعينا الآن ما ادّعيناه أوّلاً من أن الشاميّين في مجموعهم قوم حميدو الخصال، رقيقو الشمائل، فيهم وداعة ولطف وسماحة، لا نكون قد أكبرنا الدعوى أو أعظمنا الحكم. ثمّ نحكم، ونحن مطمئنون، بأنّ أخلاق الخاصّة منهم وأحوالهم
غاية في الرقي والكمال. ونخصّ بالذكر، من بين هؤلاء جميعاً، ذلك المفضال الأكرم والسري الكبير الأفخم، سعادة عبد الحميد باشا الدروبي الّذي كان قد انتهى دوره معنا في تل كلخ، بعد أن طلبنا إليه أن يعود مع سلامة الله إلى بلده حمص، وما كان يريد إلا أن يرافقنا إلى طرابلس، مجاملة منه ولطفاً فوق لطفه السابق ومعروفه الكبير. ولكنّي أبيت عليه إلا أن يرجع لمباشرة مصالحه الّتي غاب عنها منذ استقبلنا حتّى صرنا في تل كلخ. وهو، في تلك المسافة كلّها، كان يلازمنا ملازمة الظلّ للشاخص، فما كان يبارحنا ولا طرفة عين إلا إذا اقتضته إلى ذلك ضرورة من نوم أو خلافه. وقد كان مع هذا رجلاً كبير السنّ، يشقّ عليه السفر وتتعبه كثرة الحركة والركوب. لذلك على الخصوص، أشفقت عليه وما زلت به حتّى ودّعنا وعاد بالصحة والسلامة، تاركاً في قلوبنا أعظم حبّ ووداد.