الأمور وأجلّ الأعمال ما اتّفق أن نجده في طريقنا عرضاً، ممّا لا نرى في استطاعتنا بيانه على وجهه بأكثر من أن نخيل القارئ في هذه الرحلة، فيرجع إليه رجوعاً خاصّاً ويدركه حينئذ واضحاً مفصّلاً في مواضعه بالأسباب والمناسبات، وما كنّا لنورده اقتضاباً. وإن الحديث يتفرّق بالإنسان شعبه ووجهه، ويتشبّث بعضه ببعض. وأراني بحمد الله قد استفدت من تلك الأمور على ما فيها فوائد جمّة، ما كان أشدّ حاجة مثلي إليها. وإنّه ما كان يتيّسر لي بحال أن أستفيدها جملة وأنتفع أو أنفع بها أبداً إلا من هذا الطريق، طريق الصدفة العجيبة الّتي أكثر ما كانت تفاجئنا على غير حساب سابق وموعد متقدّم. وربّ صدفة خير من ميعاد. ولولا أنّ وقتي الّذي حتمته المقادير لهذه السياحة كان شهراً واحداً، وهو وقت قصير بالقياس إلى ما كان يلزم للتجوّل في مناكب الشام الواسعة وجوانبها الشاسعة، لكنت استفدت أكثر من ذلك كثيراً، ولكانت تكون رحلتي هذه كتاباً ضخماً يحوي في طوايا صحائفه مجموعة صحيحة صريحة من أنواع متفرّقة وفنون متنوّعة. أمّا ما كنت شرحته من حياة القوم الاجتماعية وأخلاقهم وآدابهم وشجاعتهم وسياستهم فإنّه لم يكن بالشيء القليل ولا بالأمر الغامض، بل لعلّ فيما ذكرته من هذا القبيل كفاية لمن أراد أن يعرف على وجه الإجمال ماذا كان تكوين ذلك الشعب الشامي الجليل، وما هي أحواله
العمومية، أو أراد أن يفهم كيف كان شأني فيما بينهم من أوّل السفر إلى أخره، خطوة خطوتها في أرض تلك البلاد. نعم، إنّ الظروف الّتي وجدت فيها كانت تأبى عليّ في غالب الأحيان أن أجتمع إلا بكبار القوم وخاصّتهم، ولهؤلاء صفات وشمائل لا توجد في مطلق الناس. وعلى الرغم من أنّي كنت أتحيّن الفرص، من وقت إلى آخر لكيما أختلط بالعامّة وأمارسهم شأن من يهمّه الوقوف على المبادئ والعادات، لم يصادف أن يجتمع لي وقت كاف أو تتيسر لي معهم ممارسة طويلة، إنّما كنت أختلس بعض الزمن وأجد منهم ذلك غراراً مثل حسو الطير ماء الثماد. وإنه ليصعب مع هذا جدّاً أن يحيط الإنسان بتفصيل موضوع أخلاقي في مجموعة كبيرة تختلف من وجوه كثيرة، وأن يلمّ من ذلك بما لو أراد أن يعطيه