فلو لم يكن الفقر وخوفه لما انتظم معاش العالم، فمن كان يتولى الحياكة والحجامة والدباغة والكناسة، ومن كان ينعَل المير والملابس من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال.
وعلى منفعة الفقر نبه قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
وقوله (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ) .
هذا مع أن من الناس من لو كفي أمر دنياه لكان يوجد
منه من البغي والتسلط ما يؤدي إلى خراب البلاد وفساد العباد، بل كان يوجد منه ما يؤدي إلى هلاك نفسه في أسرع مدة، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) .
ومن تدبر صنع الله في ذلك وتأمل ما أشار إليه في هذه الآيات التي ذكرها ثم تعرض له الشبهة التي تعرض لمن يقول: إذا كان الله غنيا جوادًا واسعًا فلم خص بعض خلقه بالغنى، وجعل أكثرهم فقراء، ومن حق الغني الذي لا يفنى غناه، والجواد الذي لا يعرف لجوده منتهى ألَّا يخص بالعطية بعضًا دون بعض، وذلك أن الجواد الحق هو الذي يعطي كل أحد بقدر استحقاقه على وجه يعود بمصلحته ومصلحة غيره، وقد فعل تعالى ذلك بكثير من العباد.
إن اللَّه تعالى فرق همم الناس للصناعات المتفاوتة، ويسر كلًّا لما خلق له، وجعل آلاتهم الفكرية والبدنية مستعدة لها، فجعل لمن قيضه لمراعاة العلم والمحافظة على الدين قلوبًا صافية وعقولًا بالمعارف لائقة، وأمزجة لطيفة، وأبدانًا لينة مستصلحة لما خلقوا له، وجعل لمن قيضه لمراعاة المهن الدنيوية والمحافظة عليها كالزراعة والبناء قلوبًا قاسية وعقولًا كنزة، وأمزجة غليظة، وأبدانًا خشنة.
وكما أنه محال أن يصلح السمع للرؤية والبصر للسمع كذلك من المحال أن يكون من خُلق للمهنة يصلح للحكمة.
وقد جعل اللَّه كل جنس من الفريقين نوعين: رفيعًا ووضيعًا.