اعلم أنه لما صعب على كل أحد أن يحصل لنفسه أدنى ما تحتاج إليه إلَّا بمعاونة غيره له - فإن لقمة الطعام لو عددنا تعب تحصيلها من حين الزرع إلى حين الطحن والخبز وصناع آلاتها لصعب حصره - احتاج الناس أن يجتمعوا فرقة فرقة، متظاهرين متعاونين، ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع، أي: أنه لا يمكن التفرد عن الجماعة بعيشه، بل يفتقر بعضهم إلى بعض في مصالح الدين والدنيا، وعلى ذلك نبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا "، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مثل المؤمين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى ".
وقد قيل: الناس كجسد واحد متى عاون بعضه بعضًا استقل، ومتى خذل بعضه بعضًا اختل.
لما احتاج الناس بعضهم إلى بعض سخر اللَّه تعالى كل واحد منهم لصناعة ما يتعاطاها، وجعل بين طبائعها وصنائعهم مناسبات خفية واتفاقات سماوية؛ ليؤثر كل واحد منهم حرفة من الحرف يشرح صدره لها، ويفرح بملابستها وتطيعه قواه لمزاولتها، ولو كلف صناعة أخرى ربما وجد متبلدًا فيها، ومتبرمًا بها.
وقد سخرهم الله تعانى لذلك، لئلا يختاروا بأجمعهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك لما اختاروا من الأسماء إلا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصناعات إلا أجملها، ومن الأعمال إلا أرفعها، ولتفاخروا على ذلك.
ولكن اللَّه تعالى بحكمته جعل كلًا منهم فيما هو فيه مجبرًا في صورة مختار، فالناس إما: راضٍ بصنعته لا يريد عنها حولًا كالحائل الذي يرضى بصناعته ويعيب الحجام، والحجام الذي يرضى بصناعته، ويعيب الحائل، وبهذا انتظم أمرهم كما قال تعالى: