ولا أنفس من أطباقها، وقد غطي جميعها بمناديل شربٍ تبين صورها من تحتها فتصور الأعين والقلوب إليها. فأخذ يلاعبنا بالشطرنج التي كانت أغلب الشهوات عليه، فاستغرق فيها ولها عن سائر ما أردنا له، ووصل اللعب نهاره كله وبعض ليلته، لا يرفع رأسه ولا يدعو لنا بطعام ولا غيره، إلى أن جعنا وألححنا عليه في الانصراف إلى منازلنا، فبعد لأيٍ أذن لنا. فانصرفنا ولم نرزأه شيئاً مما كان أعد لنا، ولا اعتذر إلينا، ولا منا إلا من رأسي على ما حرمنا من نعيم ما بين يديه، وتعجب من قحته وبخله واستخفافه بمن دعاه.
ومن صلف ابن عباس وعجبه الذي صحبه إلى يوم محنته أنه لما قيد إلى باديس أسيراً فوقعت عينه عليه، بدأه أحمد بالابتسام وقال له: أبا مناد! رأيت أي كأس أدرتها لك على هؤلاء الكلاب -! - يشير إلى الموالي العامريين - أريد أن تتقدم إلى حفظ دفاتري فإنها أهم ما عليّ. فتجهم له باديس وقال: أمكراً عند الموت يا ابن الفاعلة - إياي تغالط! وأمر بتله إلى محبسه. فعند ذلك عرف ما يراد به، ريئس من المغالطة في جرمه.
قال أبو مروان: وبلغني أن عبد العزيز بن أبي عامر سعى على دمه ودماء المأسورين معه من أصحاب زهير عند باديس، لما حصل على المرية، وخاف أن يتخلص فيكدرها عليه. وإن آكد ما أشخص به أبا الأحوص ابن صمادح يومئذ لباديس خبر ابن عباس، فقتله انصراف ابن صمادح عنه.