وأجاد السياسة، فانسدل به الستر على أهل قرطبة مدته، وحصل كل ما يرتفع من البلد في جميع أوقاته، بعد إعطاء مقاتلته فارسهم وراحلهم، وصير ذلك بأيدي ثقات من أهل الخدمة، مشارفاً لهم بضبطه، فإن فضل شيء تركه بأيديهم مثقفاً مشهوداً عليه إلى أن يعن وجه تصرفه فيه، لا يلتبس بشيء منه ولا يدخل داره، ومتى سئل قال: " ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا أمينهم "؛ وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيسرعون إليه، فإذا علموا مراده فوضوا إليه بأمرهم؛ وإذا خوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء. فأعطى السلطان قسطه من النظر، ولم يخل مع ذلك من النظر لنفسه وترقيحه لمعيشته، حتى تضاعفت ثراؤه وصار لا تقع عينه على أغنى منه، حاط ذلك كله بالبخل الشديد والمنع الخالص، اللذين لولاهما ما وجد عائبه طعناً، ولكمل لو أن بشراً يكمل. وكان مع براعته ورفعة قدره، وتشييده لقديمه بحديثه، من أشد الناس تواضعاً وعفة وصلاحاً، وأنقاهم ثوباً، وأشبههم ظاهراً بباطن، وأولاً بآخر، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يعثر له قط على حال يدل على ريبة؛ جليس كتاب منذ درج، ونجى نظر منذ فهم، مشاهداً للجماعة في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلفوا عنه، حافظاً لكتاب الله قائماً به في سره وجهره، متقناً للتلاوة، متواضعاً في رفعته، مشاركاً لأهل بلده، يزور مرضاهم ويشاهد جنائزهم.
وفي فصل:
واستمر ابن جهور في تدبير قرطبة، فأنجح سعيه بصلاحها، ولم شعثها