وآل به الأمر إلى فراق أحبته، والبعد عن مسقط رأسه ومعق تمائمه، على ضيق حاله، وضعف إحسانه. وأشهد أن ذلك لم يزده للحاجب لا ولاءً، وعليه إلا ثناء، وأنه لا يزال يعيد شكره ويبديه، وينثر حمده ويطويه، والحاجب - أدام الله إعزازه - ولي إعدائه على زمنه الغشوم، وأسلا بإنصافه من دهره الظلوم، بإلباسه من جميل رأيه ما عري منه، وإيراده من شريعة رضاه ما حليء عنه، والتخلية بينه وبين الأفق الذي لم ير كوكب سعد إلا فيه، ولا تلقى نسيم حياة إلا منه، فإنه مما يوليه من إحسانه، ويأتيه من الفضل في شانه، مستجزل شكر من أنهضه لسان، واستقل به بيان، وهو أهل الفضل، والمعهود منه كرم الفعل، والله يبقيه ويعليه، وهو حسبه وحسبي فيه.
ولما اطرد هذا النثر لحسن اتساقه، ولذ مساقه، هزت النظم أريحية جذب لها بعنانه، وعارضه بها في ميدانه؛ وأبت أن ينفرد النثر بلقاء الحاجب ومشافهته، ويستبد بأن يلمح غرته، ويخدم بالحضور حضرته، فأثبت منه ما إن أنعم عند تصفحه بالصفح عن الزلل يعرض فيه، والخلل يبدو منه، وصل النعمة بمثلها، وقرن العارفة بشكلها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بعقلي، مذ بن عني، لمم
ففي ناظري عن رشاد عمى ... وفي أذني عن ملام صمم
قضت بشماسي على العاذلين ... شموس مكللة بالظلم