فبعث إليه بعهده، وجاءت الخلعة واللقب من عنده، رأياً اغتر بباديه، وذهل عن عواقبه وبواديه، واتصلت بالعبيدي وأمره يومئذٍ يدور على الجرجرائي، فاضطغنها عليه، وفوق سهام مكروهه إليه؛ وكانت بطون من عامر بن صعصعة: زغبة وعدي والأثبج ورياح وغيرهم من ألفاف عامر، تنزل الصعيد، لا يسمح لها بالرحيل، ولا يخلى بينها وبين إجازة النيل، فأراهم الجرجرائي لحينه ضجة السوق، وأفرج عن لقم الطريق، وأذن لهم في المعز، أمنية طالما تحلبت / [178] إليها أطماعهم، وعكفت عليها أبصارهم وأسماعهم، فغشاه منهم سيل العرم، ورماه بذؤلول ابنة الرقم، وتهاون المعز بهم أولاً فشغلهم بخدمته، وحملهم أعباء نعمته، وهم في خلال ذلك يتمرسون بجهاته، ويدبون إلى أنصاره وحماته، ويطلون على مقاتله وعوراته، حتىت بان لهم شانه، وهان عليهم سلطانه، فجاهروه بالعداوة، وأرادوه على الإتاوة، وجرت بينهم أثناء ذلك حروب، لم يحمدها غالب ولا مغلوب، ولا أمنها بريء ولا مريب، أضربت عن خبرها لطوله، ولأنه لم يبلغني عن من أثق بتحصيله، كان من أفراها لأديمه، وألصقها بصميمه، وقعة حيدران سنة أربع وأربعين، فإنها أوهنت بطشه، وثلت عرشه، وأرته البوار، وضربت عليه الحصار، وأحاط الأعراب بالقيروان يطؤون حريمها، ويستعرضون راحلها ومقيمها، حتى ماج بعضها في بعض، وتبرأت منها كل سماءٍ وأرض، فلما كان سنة خمسين أعطي الدني، وناشدهم التقية، واشترك المهدية، وقد كان نظر في ماله، وفكر في ما بازائه من أقتاله، فزف إلى زعمائهم بناته وكن اللآلي وأماني الغالي، فأصبحوا له أصهاراً، وقاموا دونه أنصاراً، فلما استحكم بأسه، وأهمته نفسه، استجاش من قبله، واحتمل حرمه وثقله، وخلى الملك لمن حماه وحمله، وجاء أصهاره فكانوا بحيث يسمعون نئيمة، ويمنعونه ممن عسى أن يكيده ويضيمه، حتى بلغ المهدية فأقام بها أسقط من الشمس في الميزان، وأهون من الغفر على القبان، ولم يكن أحد في زمانه بأساً في الملاحم، ولا أطول يداص بالمكارم، ولا أعنى بلسان العرب، ولا