العلوم تلون الزمان، وتلاعب بالملوك بأفقنا تلاعب الرياح بالأغصان، حتى ظفر به المأمون بن ذي النون، فشد عليه يد الضنين، فوجد كنفاً سهلاً، وسلطاناً غفلاً، فسر وساء، وارتسم في أي الدواوين شاء، وكان بالطب أكلف، وعليه أوقف، فتعلق بسببه، حتى اشتهر به، ولم يكن من النفوذ فيه حسبما استذاع عنه الخبر، خلا أنه كان - زعموا - بصيراً بطب النظر، وكان مع ما يحملع من هذا الفن حسن البيان مليح المجلس، حاضر الجواب كثير النادر، راوية للشعر والمثل السائر، نسابة للمفاخر، عارفاً بالمثالب والمناقب. وقفت له على شعر مجموع، عاطل اكثره من حلي البديع، وكان بالجملة روضة أدب ممتعاً للمجلس، وهيهات أن يأتي الدهر بمثله، وقد وصفه ابن حيان، في فصل قد أثبته في أول هذا القسم من الديوان.
فلما انصرفت الدولة الذنوبية، تحيز أبو محمد إلى إشبيلية، فأنس المعتمد بمكانه، وجعل له حظاً من سلطانه، ولم يزل في من يتردد عليه ويغشاه، حتى أشجاه من الخلع - حسبما وصفناه - ما أشجاه، وبقي أبو محمد على حاله، مشتملاً بفضل جده وإقباله، غير مستريب بدهره، ولا منكر لشيء من أمره، ممتعاً بآلاته، مقبلاً على لذاته، إلى أن توفي سنة ست وتسعين منتصف رجب الفرد.
وعلى ذكره، فقد أجريت طرفاً من نظمه ونثره، منبهاً على مكانه، ومشهداً على ما وصفت من شانه.