وأم أبي على هذا، تعرف بشكل. وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبةً لها تعرف بشذر في يوم واحد. فحملت شذر وولدت أم أبيها؛ فحسدتها شكل، وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة؛ حتى اشتهر ذلك. وحملت شكل وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم أبيها، حتى بلغ الأمر بها إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد! فلما قتل الأمين، وورد المأمون إلى بغداد، جلس يوماً وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين. فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان، ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجه فأحضر أم أبيها، وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا ترد جواباً. ثم أمر بإحضار أبي علي. فلما رأته أم أبيها، تنقبت وسترت وجهها. فقال المأمون: كنت مسفرةً، فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين، لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام أوجب من سفوري لأبي علي! فوالله، ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن! وقد قال الله عز وجل في قريش: الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. قال ابن عباس: آمنهم من البرص والجذام، وهو والله أبرص، وما هو إلا ابن فلان الفراش! فأمر المأمون أخاه أبا إسحق، فجلدها حداً. فقالت: سوءةً يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش، وسننت على بنات الخلفاء الحد! فوالله، لقد ظننت أن أمره يستتر، فأما الآن فوالله ليتناقلنه الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة!. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله! فلو كانت رجلاً لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء! وقد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب.
ونرجع إلى ذكر إسحق بن إبراهيم، ونورد طرفاً من أخباره، في حزمه وضبطه، بقدر ما يليق بالكتاب.
إسحق هذا، هو ابن أخي طاهر ابن الحسين، ويكنى أبا الحسن. وكان المأمون اصطنعه وولاه خلافة عبد الله بن طاهر بحضرته لما أخرج عبد الله إلى خراسان، وكان أشد الناس تقدماً عنده واختصاصاً به.
فذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه حضر مجلس المأمون يوماً، وقد عرض عليه أحمد بن أبي خالد رقاعاً، فيها رقعة قوم متظلمين من إسحق بن إبراهيم. فلما قرأها المأمون، أخذ القلم وكتب على ظهرها: ما في هؤلاء الأوباش إلا كل طاعن واش! إسحق غربي بيدي، ومن غرسته أنجب ولم يخلف، لا أعدي عليه أحداً. ثم كتب إلى إسحق رقعة، فيها: من مؤدب مشفق إلى حصيف متأدب. يا بني، من عز تواضع، ومن قدر عفا، ومن راعى أنصف، ومن راقب حذر. وعاقبة الدالة غير محمودة، والمؤمن كيس فطن. والسلام.
وولي إسحق للمأمون، ثم للمعتصم، ثم للواثق، ثم للمتوكل. ومات في أيام المتوكل. فأقام محمداً ابنه مكانه، فلبث يسيراً ومات. فاستدعي محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، ورد إليه ما كان إلى إسحق.
وذكروا أن بعض ولد الرشيد وكان له موضع من النسب ومكان من المعرفة والأدب مرض ببغداد مرضاً طال، ولم يقدر على الركوب واشتهى التفرج والتنزه في الماء. فأراد أن يبني زلالاً يجلس فيه، فمنعه إسحق، وقال: هذا شيء لا نحب أن يعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين وإذنه. فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك، فخرج الأمر إلى إسحق بإطلاقه له. فكتب إسحق: ورد عليّ كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلال لم يحد لي طوله ولا عرضه، فوقفت أمره إلى أن استطلع الرأي في ذلك. فكتب إليه يحمده على احتياطه، ويحد له ذرع الزلال.
قال: لما انتق المعتصم على سر من رأى، كان الناس في يوم الموكب يغشون دار المأمون، ويقعدون فيها على سبيلهم في حياته إجلالاً للسلطان وتعظيماً لأمره. فانصرف محمد بن إسحق في يوم من الأيام الحارة، وقد أطال الركوب. واجتاز بدار المأمون، وقد فتل قلنسوته على رأسه مستتراً بها من الشمس، فبلغ أباه ذلك، فضربه معاقباً له على اجتيازه بباب الخليفة متبذلاً!