وذكر عبد الله بن خرداذبه، أنه خرج يوماً من بين يدي المأمون في أثر إسحق بن إبراهيم، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني، وقف ووقف القواد والناس لوقوفه! ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟، وكان علي ذلك الوقت صاحب أمر الدار والموسوم بالحجبة. فأتي بخليفته، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم قال: هاتوا خليفة صاحب البريد. فأتي به، فضربه مائة مقرعة، ثم قال: الحبس!. ثم دعا بعلي بن صالح وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلدان خلافتكما في دار الخليفة من يضيع الأمور ويهملها؟ كنتما بهذا الأدب أحق من هذين!. فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته، أيها الأمير؟ فقال: صاحب بريد يقعد في دار الخليفة، فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر؟ ثم خرج! قال: فكنت أدخل الدار بعدها، فلا أرى فيها ضاحكاً! قال: ودخل إسحق في يوم نوروز إلى المتوكل، والسماجة بين يديه. وعلى المتوكل ثوب وشي مثقل، وقد كثر أصحاب السماجة حتى قربوا منه للقط الدراهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيله! فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً، وهو يقول: أف وتف! فما تغني حراستنا المملكه مع هذا التضييع!. ورآه المتوكل وقد ولى، فقال: ويلكم! ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً! فخرج الحجاب والخدم خلفه، فدخل وهو يسمع وصيفاً وزرافة كل مكروه، حتى وصل إلى المتوكل. فقال: ما أغضبك، ولم خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو قد احتسب نفسه ديانةً وله نية فاسدة وطوية ردية، فيثب بك! فمتى كان يستقال هذا، ولو أخليت الأرض منهم؟. فقال: يا أبا الحسين، لا تغضب! فوالله لا تراني على مثلها أبداً. وبني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة.
وذكر موسى بن صالح بن شيخ، أنه كلم إسحق بن إبراهيم في امرأة من أهله، وسأله النظر لها فقال: يا أبا محمد، من قصة هذه المرأة، ومن حالها، ومن بعلها، قال: فوالله إن زال يصفها حتى تحيرت.
قال أبو البرق الشاعر: كان إسحق يجري علي أرزاقاً، فأنشدته يوماً، فسألني عن عيالي، وما احتاج إليه لهم، ثم قال لي: تحتاج عيالك في كل شهر من الدقيق كذا، ومن كذا كذا ... فما زال يخبرني بشيء من أمر منزلي جهلته وعلمه هو! قال: وورد على إسحق كتاب من المعتصم، وهو جالس يشرب، ومعه محمد بن راشد الخناق، وكان خصيصاً به أثيراً عنده. فما فرغ من قراءة الكتاب حتى قال: سياط وعقابين وجلادين! فأحضر ذلك. فأمر بمحمد بن راشد، فأقيم من مجلسه وشق عنه ونصب في العقابين، وهو يقول: أيها الأمير، ما حالي؟ ما قصتي؟. فقال: الحق الجوهر الذي كان لفلان، من صفته كيت وكيت، تحضرنيه الساعة، وإلا أتيت على نفسك!. فذهب يتلكأ فقال: أوجعوا! فلما أحس بالضرب، قال: أنا أحضره أيها الأمير. قال: وحق أمير المؤمنين، لا برحت مكانك أو تحضره!. فأحضره لوقته. فلما رآه إسحق، سري عنه وأسفر وجهه وقال: هاتوا ثياباً، فأتي بخلعة، فألبسها. ورده إلى موضعه. وأجاب عن الكتاب، وأنفذ الحق لوقته إلى المعتصم. فقال محمد: أيها الأمير، ما أبعد ما بين الفعلين؟. فقال: ويحك! وفيت الخدمة والنصيحة، ووفيت المودة بعد ذلك حقها.
وذكر أبو حشيشة الطنبوري، قال: كنت يوماً في منزلي، إذ طرق الباب صاحب بريد، وقال: أجب! فلما قال أجب، علمت أنه أمر عال. فلبست ثيابي، ومضيت معه حتى دخلنا دار إسحق بن إبراهيم. فعدل بي إلى ممر طويل فيه حجر متقابلة، تفوح من جميعها روائح الطعام. فأدخلت حجرة منها، وقدم إلي طعام في نهاية النظافة وطيب الرائحة، فأكلت. وجاؤوني بثلاثة أرطال، فشربت. وأحضروا لي صندوقاً فيه طنابير، فاخترت طنبوراً منها، وأصلحته على الطريقة، وأخرجت من الموضع إلى حجرة لم أر أحسن منها. وإذا في مجلسها رجلان جالسان، على أحدهما قباء ملحم وقلنسوة سمورية، وعلى الآخر ثياب خز؛ وستارة مضروبة فيه. فسلمت وأمرت بالجلوس، فجلست. فقال لي صاحب السمورية: غنّ! فغنيت:
ما أُراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
ملّني واثقاً بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالانسان