ونهيا بالجيزة. وديرها من أحسن الديارات وأنزهها وأطيبها، عامر برهبانه وسكانه. وله في النيل منظر عجيب، لأن الماء يحيط به من جميع جهاته. فإذا انصرف الماء وزرع، أظهرت أراضيه غرائب النوار وأصناف الزهر. فهو من المتنزهات الموصوفة والبقاع المشهورة. وله خليج يجتمع إليه سائر الطيور، فهو أيضاً متصيد حسن. وقد وصفته الشعراء وذكرت حسنه وطيب موضعه.
ولعباس بن البصري، فيه:
يا من إذا سكر النديم بكأسه ... غريت لواحظه بسكر الفيّق
طلع الصباح فسقّني تلك التي ... ظلمت فشبّه لونها بالزنبق
والق الصباح بنور وجهك إنه ... لا يلتقي الفرحان حتى يلتقي
قلبي الذي لم يبق فيه هواكم ... إلا بقية نار شوقٍ قد بقي
أواما ترى وجه الربيع وقد زهت ... أنواره بنهاره المتألق
وتجاوبت أطياره وتبسّمت ... أشجاره عن ثغر زهرٍ مونق
لم يغذها طلّ الرذاذ ببرده ... حتى تفتّح كل جفنٍ مطبق
والبدر في وسط السماء كأنه ... وجهٌ مليحٌ في قناع أزرق
يا للديارات الملاح وما بها ... من طيب يوم مرّ لي بتشوّق
أيام كنت وكان لي شغلٌ بها ... وأسير شوق صبابتي لم يطلق
يا دير نهيا، ما ذكرتك ساعةً ... إلا تذكرت الشباب بمفرقي
والدهر غضٌّ والزمان مساعدٌ ... ومقامنا ومبيتنا بالجوسق
يا دير نهيا إن ذكرت فإنني ... أسعى إليك مدى الخيول السبّق
وإذا سئلت عن الطيور وصيدها ... وجنوسها فاصدق وإن لم تصدق
فالغرّ، فالكروان، فالفارور إذ ... يشجيك في طيرانه المتحلّق
أشهدت حرب الطير في غيطانه ... لما تجوّق منه كلّ مجوّق
والزمّج الغضبان في رهط له ... ينحطّ بين مرعّدٍ ومبرق
ورأيت للبازي سطوة موسر ... ولغيره ذلّ الفقير المملق
كم قد صبوت بغرّتي في شرّتي ... وقطعت أوقاتي برمي البندق
وخلعت في طلب المجون حبائلي ... حتى نسبت إلى فعال الأخرق
ومهاجرٍ ومكابر ومنافرٍ ... قلق الفؤاد به وإن لم يقلق
لو عاين التفاح حمرة خدّه ... لصبا إلى ديباج ذاك الرونق
يا حامل السيف الغداة وطرفه ... أمضى من السيف الحسام المطلق
إرفق بعبدك لا تطل أشجانه ... وإرفق به يا صاحب الثغر النقي
وقال أيضاً:
أتنشط للشّرب يا سيدي ... فيومك هذا دقيق الدّروز
فعندي لك اليوم مشوّيتان ... سرقتهما من دجاج العجوز
وخمسون بيضةً مثل النجوم ... خبتهنّ مني في جوف كوز
فغافلتها وتناولتهنّ ... ولم تنتفع بالمكان الحريز
أتنشط عندي على نبقتين ... على لوزتين على قطرميز
ونقصد نهيا وديراً لها ... به مطرح الورد والمرنجوز
ونشرب فيها برطلٍ وجام ... وكبرّةٍ وانخابٍ بكوز
فأما الطيور لفرط السرور ... فبين الرياض وبين الغروز
فهذا يصيح على الحادثات: ... تنحّي، وهذا بنا: لا تجوزي
وخشف أتانا رخيم الدلال ... نشا في النعيم ولبس الخزوز
يحب الندامى وأشعارهم ... ويخبى ودائعهم في الكنوز
ويظفر مني بشيخ مليح ... ظريفٍ أديبٍ ضحوكٍ طنوز
فزرني تجدني وفي المقال ... وإلا أفي، فاكسع اليوم طيزي!