وقال يوماً لأبي حرملة المزين: حذقني. قال: يا مخنث، أضع يدي على وجهك وأنا أضعها على وجه أمير المؤمنين؟ قال: فأنت أيضاً تضعها على باب أستك كل يوم خمس مرات! قال: دخل عبادة يوماً الحمام بغير مئزر متبذلاً غير محتشم، وفي الحمام شيخ جليل. فقال: ويحك! أما تستحي؟ استتر بيدك! فقال: أيش أستر؟ إنما هي هدية مكة: مقلتان ومسواك! قال علي بن يحيى المنجم: قال عبادة يوماً للمتوكل، ويحيى بن أكثم القاضي حاضر: يا أمير المؤمنين، قل ليحيى يعلمني فرائض الصلب. قال المتوكل ليحيى: هو ذا تسمع. فقال، وقد علم أن المتوكل غمز عليه عبادة ليتنادر به: سأل محالاً يا أمير المؤمنين. قال: وكيف؟ قال: لأن الشاعر يقول:
وإن من أدبته في الصبى ... كالعود يسقى الماء في غرسه
وهذا شيخ لا ينجع فيه التعليم. ولكن إن كان له ابن حدث ذكر فليأتني به، أعلمه. فنظر إليه عبادة وقال: يا قاض، لو كنت من أهل صناعتنا، ما قوي بك أحد. فقال: لست من أهل صناعتك وما بأحد علي قوة.
قال: وخرج عبادة يوماً في السحر إلى الحمام، فلقي غلاماً من أولاد الأتراك، فأعطاه عشرة دراهم وقال: إقطع أمر عمك! فبينا الغلام فوقه خلف الدرب، إذ أشرفت عجوز من غرفة لها، فرأتهما، فصاحت: اللصوص! فقال عبادة: يا عجوز السوء! النقب في استي، صياحك أنت من أيش؟ وذكر أبو حازم القاضي، قال كنت مقيماً بدمشق من ابن مدبر، وكان لا يرد عليه كتاب إلا أقرأنيه. فورد عليه كتاب سعيد الرسح خليفة له بسر من رأى، فقرأه وتبسم ولم يدفعه إلي. فسألته عما فيه؟ قال: كتب إلي سعيد يذكر أنه كان واقفاً بباب المتوكل، إذ خرج موسى بن عبد الملك وهو متغير الوجه، فقال لغلامه: احمل إلى عبادة ألف درهم وقل: لا تعاود أن تكثر فضولك. فسألت عن الخبر، فقيل: دخل موسى على المتوكل وهو جالس على بركة السباع، وعبادة بين يديه يتكلم ويعبث. فقال المتوكل: يا موسى، قد صدع رأسي عبادة، فما تريحني منه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إطرحه في بركة الأسد! فقال عبادة: نعم، إطرحني أنا في بركة الأسد، واحمله هو إلى أسد دمشق حتى يستخرج لك الأموال منه. فتغير موسى وقامت عليه القيامة، وبعث إلى عبادة يمال أسكته به.
هذا العمر بنصيبين، مما يلي الجانب الشرقي منها، في الجبل، والجبل مشرف على البلد. وهو من الديارات الموصوفة والمواقع المذكورة بالطيب والحسن. وحوله الشجر والكروم، وفيه عيون تتدفق. وهو كثير القلايات والرهبان. وشرابه موصوف، يحمل إلى نصيبين وغيرها. وليس يخلو من أهل القصف واللعب، فهو وسائر بقاعه معمورة بمن يطرقها.
وبهذا الجبل ثلاثة ديارات أخر، في صف واحد، أحسن شيء منظراً وأجله موقعاً، وهي: عمر الزعفران، ومر أوجي ومر يوحنا. والعمر الكبير بالموضع أحد متنزهات الدنيا. وأسفل الجبل الهرماس، وهو نهر نصيبين، وعيون تتدفق من أصل الجبل، ويعرف الموضع برأس الماء. وهذا الجبل أول طور عبدين، وهو على ثلاثة فراسخ من نصيبين. ويجري هذا النهر بين جبلين. وعلى حافته الكروم والشجر، فإذا وصل إلى نصيبين افترق فرقتين، فمنه ما يجتاز بباب سنجار، فيسقي ما هناك من البساتين ويصب في الخابور، ومنه ما يعدل إلى شرقي البلد فيدير أرحية هناك ويسقي البساتين أيضاً وما هناك.
ولمصعب الكاتب، في دير عمر الزعفران:
عُمرت بقاع عمر الزعفران ... بفتيان غطارفةٍ هجان
بكل فتىً يحن إلى التصابي ... ويهوى شرب عاتقة الدنان
بكل فتىً يميل إلى الملاهي ... وأصوات المثالث والمثاني
ظللنا نُعمل الكاسات فيه ... على روض كنقش الخسرواني
وأغصان تميل بها ثمارٌ ... قريبات من الجاني دواني
تثنّيها الرياح كما تثنّى ... بحسن قوامه آوي جناني
وأنهارٍ تسلسل جاريات ... يلوح بياضها كاللؤلؤان
وأطيار إذا غنّتك أغنت ... عن ابن المارقي وعن بنان
نجاوبها إذا ناحت بشجو ... بقهقهة القواقز والقناني
وغزلان مراتعها فؤادي ... شجاني منهم ما قد شجاني
وبنوهم ويوحنّا وشعيا ... ذوو الاحسان والصور الحسان