إذا كانت بنات الكرم شربي ... ونقلي وجهه الحسن الجميل
أمنت بذين عاقبة الليالي ... وهان علي ما قال العذول
ومعتذرٍ إلي بشطر عينٍ ... له من كسر ناظرها رسول
صرفت الكأس عنه حين غنّى ... وإن لسانه منها ثقيل
أرحني قد ترفعت الثريّا ... وغالت كلّ ليلي عنك غول
وهذا الدير غربي دجلة، من أعمال بلد، بين جبلين، في فم الوادي. له منظر حسن وموقع جليل. وهواؤه رقيق لطيف، وقلاليه عامرة كثيرة الأشجار، وأرضه كثيرة الرياض. وله سور يحيط به، ومشترف على سطح هيكله يشرف على دجلة والجبل. والناس يطرقونه للشرب فيه، وهو من مطارح أهل البطالة ومواطن ذوي الخلاعة.
وللخباز البلدي، فيه:
رهبان دير سقوني الخمر صافية ... مثل الشياطين في دير الشياطين
مشوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
وكان عبادة، لما نفاه المتوكل إلى الموصل، يمضي إلى دير الشياطين فيشرب فيه، ولم يكن يفارقه. فهوي غلاماً من الرهبان بالدير، وكان من أحسن الناس وجهاً وقداً، فهام به وجن عليه ولزم الدير من أجله، ولم يزل يخدعه ويلاطفه ويعطيه إلى أن سلخ الراهب من الدير وخرج معه. وفطن رهبان الدير بعبادة وما فعل من إفساده الغلام، فأرادوا قتله بأن يرموه من أعلى الدير إلى الوادي. ففطن بهم وهرب، فلم يعد إلى الموضع.
وكان عبادة، من أطيب الناس وأخفهم روحاً وأحضرهم نادرة. وكان أبوه من طباخي المأمون، وكان معه، فخرج حاذقاً بالطبيخ. ثم مات أبوه، فتخنث وصار رأساً في العيارة والخلاعة. فوصف للمأمون، وهو إذ ذاك حدث، فاستحضره. فلما وقف بين يديه تنادر وحاكى ومازح، فاستطابه المأمون. فقال: أمضوا به إلى زبيدة لتراه وتضحك منه، فمضوا به إليها، فلما دخل عليها وجدها على برذعة تاختج وعلى رأسها جارية تذب بمذبة خوص. فقال عبادة: يا ستي، كأنك من ناطف البركة. فضحكت منه واستطابته، فأقام عندها أياماً، فوصلته وكسته وكانت لا تكاد تصبر عنه.
قال جلس المأمون في بعض الأيام، وأمر بأن تحضر اللحوم والحيوان وما يحتاج إليه من آلة الطبيخ وقال للندماء: ليطبخ كل واحد منكم قدراً. وطبخ هو أيضاً قدراً وطبخ أخوه أبو إسحق قدراً، ففاحت لها روائح غلبت على روائح قدورهم طيباً وعطرية. فعجبوا من ذلك، وعبادة حاضر، فحسده. فقال: إن أردت أن تزيد في طيب قدرك، فصب فيها سكرجة كامخ. فأخذ سكرجة كامخ كبر وصبها في القدر، فساعة صب السكرجة، فاحت لها روائح منتنة. فقال المأمون: ويلكم! ما هذه الرائحة المنتنة؟ قال عبادة: رائحة قدر أخيك الطباخ! قال ماذا طرحت فيها حتى عادت بعد الطيب إلى هذه الرائحة؟ فقال سكرجة كامخ كبر أشار بها عبادة. فقال أما علمت أنك إذا أدخلت جسماً ميتاً على جسم حي أفسده؟ فحقدها المعتصم على عبادة. فلما ولي المعتصم، أمر بقتله، ثم قال: ما لهذا الكلب من القدر ما يقتل به، ولكن أنفوه. فنفي. فلما ولي الواثق رده، فكان معه ثم مع المتوكل بعده. ثم غضب عليه المتوكل فنفاه إلى الموصل.
قال أبو حازم الفقيه، وقد جرى ذكر عبادة: ما كان أظرفه. قيل: وكيف؟ قال: كان المتوكل نفاه، فلما حصل بالموصل، تبعه غرماؤه وطالبوه، وقدموه إلى علي بن إبراهيم الغمري وهو قاضي الموصل، فحلف لواحد ثم لآخر ثم لآخر. فقال علي بن إبراهيم: ويحك! ترى هؤلاء أجمعوا على ظلمك؟ فاتق الله وارجع إلى نفسك. فإن كانت عسرة كان بإزائها نظرة. قال: صدقت، فديتك! ليس كلهم ادعى الكذب ولا كلهم ادعى الصدق، وإنما دفعت بالله ما لا أطيق.
ثم رده المتوكل. وكان من أحضر الناس نادرة وأسرعهم جواباً.
وقال المتوكل لعبادة ذات يوم: دع التخنث حتى أزوجك. قال: أنت خليفة أو دلالة؟ وقال له ابن حمدون: يا عبادة، لو حججت لاكتسبت أجراً ورآك الناس في مثل هذا الوجه المبارك. فقال: اسمعوا، ويلكم، إلى هذا العيار: يريد أن ينفيني من سامراء على جمل! وقال له دعبل يوماً: والله لأهجونك! قال: والله لئن فعلت لأخرجن أمك في الخيال! قال سعد بن إبراهيم الكاتب: قلت له يوماً: يكون مخنث بغير بغاء؟ قال: نعم. ولكن لا يكون مليح. يكون مثل قاضي بلا دنية!