وكانت امرأته آمنة بنت الشريد بدمشق، فحبسها معاوية حبساً طويلاً. فلما حمل رأس عمرو إليه، وجه به إلى آمنة إلى السجن، وقال للرسول: ألقه في حجرها واحفظ ما تقول. فلما أتاها، ارتاعت له وأكبت تقبله. ثم قالت: واضيعتا في دار هوان، نفيتموه طويلاً وأهديتموه إلي قتيلاً. فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له غير ناسية، قل لمعاوية: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك! فعاد الرسول بما قالت، فأمر بها، فأحضرت، وعنده جماعة فيهم إياس بن شرحبيل وكان في شدقيه نتوء لعظم لسانه. فقال معاوية لها: يا عدوة الله! أنت صاحبة الكلام؟ قالت. نعم، غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له. وقد، لعمري، اجتهدت في الدعاء وأنا اجتهد إن شاء الله، والله من وراء العباد وإن الله بالنقمة من ورائك. فأمسك معاوية. فقال إياس: اقتل هذه، فما كان زوجها بأحق بالقتل منها. فقالت: ما لك، ويلك، بين شدقيك جثمان الضفدع، وأنت تأمره بقتلي كما قتل بعلي بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين. فضحك معاوية والجماعة وبان الخجل في إياس، ثم قال لها معاوية: أخرجي عني فلا أسمع بك في شيء من الشام! قالت: سأخرج عنك، فما الشام لي بوطن، ولا أعرج فيه على حميم ولا سكن. ولقد عظمت فيه مصيبتي، وما قرت به عيني، وما أنا إليك بعائدة ولا لك حيث كنت حامدة. فأشار إليها بيده أن أخرجي! فقالت: عجباً لمعاوية يبسط علي غرب لسانه ويشير إلي ببنانه. فلما خرجت قال معاوية: يحمل إليها ما يقطع به لسانها وعني ويخف به إلى بلدها. فقبضت ما أمر لها به، وخرجت تريد الكوفة، فلما وصلت إلى حمص توفيت بها.
وهذا الدير ينسب إلى يونس بن متى النبي صلى الله عليهن وعلى اسمه بني. وهو في الجانب الشرقي من الموصل، بينه وبين دجلة فرسخان. وموضعه يعرف بنينوى، ونينوى هي مدينة يونس عليه السلام. وأرضه كلها نوار وشقائق. وله في أيام الربيع ظاهر حسن مونق، وهو مقصود.
وتحت الدير، عين تعرف بعين يونس. فالناس يقصدون هذا الموضع لخلال: منها التنزه واللعب، ومنها التبرك بموضعه، ومنها الاغتسال من العين التي تحته.
وكان اليهود، في أيام الحسين بن عبد الله بن حمدان، دسوا واحداً منهم فدخل الهيكل وأحدث فيه، واتصل الخبر إلى ابن حمدان، فجمع كل يهودي بالموصل، فصادرهم على مال كثير أخذه منهم.
ولأبي شاس منير، فيه:
يا دير يونس، جادت صوبك الدّيم ... حتى تُرى ناضراً بالنور تبتسم
لم يشف في ناجر ماءٌ على ظمأ ... كما شفى حرّ قلبي ماؤك الشبم
ولم يحلك محزونٌ به سقمٌ ... إلا تحلل عنه ذلك السقم
استغفر الله من فتك بذي غنج ... جرى علي به في ربعك القلم
وكان أبو شاس هذا، من أطبع الناس، مليح الشعر، كثير الوصف للخمر، ملازماً للديارات، متطرحاً بها، مفتوناً برهبانها، ومن فيها. فمن شعره الذي وصف فيه الخمر وملح، قوله:
أعارك الحلم والوقار ... ثوباً من الصمت لا يعار
فقم إلى الخمر فامتحنها ... إذا استقرّت بك الديار
وغنّت الطير في رياضٍ ... زيّن عيدانها اخضرار
من التي صانها ملوكٌ ... هم هم السادة الكبار
إذا بدت والدجى مقيمٌ ... صار مكان الدجى نهار
كأنهم والمدام ركبٌ ... يؤمهم في الظلام نار
ومن مليح شعره: قوله:
لا تعدلنّ عن ابنة الكرم ... بأبي، ففيها صحة الجسم
واعلم بأنك إن لهجت بغيرها ... هطلت عليك سحائب الهمّ
وإذا شربت فكن لها متيقظاً ... حتى تبين طيبة الطعم
لو لم يكن في شربها من راحةٍ ... إلا التخلّص من يد الغم
وقال أيضاً:
أعاذل، ما على مثلي سبيل ... وعذلك في المدامة مستحيل
أعاذل، لا تلمنا في هواها ... فإن عتابنا فيها طويل
كلانا يدعي في الخمر علماً ... فدعني لا أقول ولا تقول
أليس مطيتي حقوي غلام ... ووصل أناملي كأسٌ شمول