هذا الدير بالموصل في أعلاها، يطل على دجلة والعروب. وهو دير كبير عامر، يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرف. ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم. فيه قلايات كثيرة لرهبانه. وله درجة منقورة في الجبل يفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة، وعليها يستقى الماء من دجلة. وتحت الدير عين كبيرة تصب إلى دجلة، ولها وقت من السنة يقصدها الناس فيستحمون منها، ويذكرون أنها تبرىء من الجرب والحكة وتنفع المقرعين والزمنى.

والشعانين في هذا الدير حسن، يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيام يشربون. ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله. وقد قالت الشعراء في هذا الدير، ووصفت حسنه ونزهته.

وللثرواني، فيه:

إسقني الراح صباحا ... قهوة صهباء راحا

واصطبح في الدير الأعلى ... في الشعانين اصطباحا

إن من لم يصطبحها اليو ... م، لم يلق نجاحا

ثم قلّدني من الزي ... تون والخوص وشاحا

في الشعانين وإن لا ... قيت في ذاك افتضاحا

عظّم الأعلام والره ... بان والصلب الملاحا

واجعل البيعة والقص ... ر جميعاً مستراحا

لا كمن يمزح بالشهر ... ة والخلع مزاحا

أو دع الشهرة والزم ... كل من يهوى الصلاحا

والزم الجمعة والبك ... رة فيها والرواحا

وكان المأمون، اجتاز بهذا الدير في خروجه إلى دمشق، فأقام به أياماً. ووافق نزوله عيد الشعانين. فذكر أحمد بن صدقة، قال: خرجنا مع المأمون، فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته؛ وجاء عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير. وزين الدير في ذلك اليوم بأحسن زي. وخرج رهبانه وقسانه إلى المذبح، وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر قد تقلدوا الصلبان وتوشحوا بالمناديل المنقوشة. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه. ثم انصرف القوم إلى قلاليهم وقربانهم، وعطف إلى المأمون من كان معهم من الجواري والغلمان، بيد كل واحد منهم تحفة من رياحين وقتهم، وبأيدي جماعة منهم كؤوس فيها أنواع الشراب. فأدناهم، وجعل يأخذ من هذا ومن هذه تحية، وقد شغف بما رآه منهم، وما فينا إلا من هذه حاله. وهو في خلال ذلك يشرب والغناء يعمل. ثم أمر بإخراج من معه من وصائفه المزنرات، فأخرج إليه عشرون وصيفة كأنهم البدور، عليهن الديباج، وفي أعناقهن صلبان الذهب، بأيديهن الخوص والزيتون. فقال: يا أحمد، قد قلت في هؤلاء أبياتاً، فغنني بها، وهي:

ظباء كالدنانير ... ملاحٌ في المقاصير

جلاهنّ الشعانين ... علينا في الزنانير

وقد زرفنّ أصداغاً ... كأذناب الزرانير

وأقبلن بأوساط ... كأوساط الزنابير

ثم أخرج نعم جاريته، وكانت وصيفة، فغنت:

وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في كبدي بسهم نافذ

فنعم ظلمتك فاصفحي وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ

وطرب وشرب واستعاد الصوت دفعات، ثم قال لليزيدي: أرأيت أحسن مما نحو فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تشكر من خولك فيزيدك منه ويحفظه عليك. قال: بارك الله عليك فلقد ذكرت في موضع الذكرى. ثم أمر بثلاثين ألف درهم. فتصدق بها للوقت.

وإلى جانب هذا الدير، مشهد عمرو بن الحمق الخزاعي، ومسجد بنته بنو حمدان يتصل بالقبر. ولعمرو بن الحمق صحبة، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وشهد معه مشاهده كلها. وكان معاوية طلبه دهراً، وهو ينتقل من مكان إلى مكان، ثم ظفر به بالموصل، وكان قد سقي بطنه واشتدت علته، فدل عليه عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي وهو ابن أخت معاوية، فكسبه في غار بالموصل وقتله، وحمل رأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الاسلام من بلد إلى بلد، ودفنت جثته في هذا الموضع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015