وحكى جحظة، عن إبراهيم بن القسم زرزر، إن لاكهكيفي كان حسن الغناء مجيداً، وكان يحسد إبراهيم بن أبي العبيس على غنائه وشجا صوته. فلما مات إبراهيم وكانت وفاته في أيام المكتفي، على لاكهكيفي والدموع في عيني. فقال: ما لك؟ قلت: مات إبراهيم! قال: بسلام! والله، لو لم يمت لقتلته!
وهذا الدير شرقي بغداد، بباب الشماسية، على نهر المهدي. وهناك أرحية للماء، وحوله بساتين وأشجار ونخل. والموضع نزه، حسن العمارة، آهل بمن يطرقه، وبمن فيه من رهبانه.
وعيد الفصح ببغداد، فيه منظر عجيب. لأنه لا يبقى نصراني إلا حضر وتقرب فيه، ولا أحد من أهل الطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنزه فيه. وهو أحد متنزهات بغداد المشهورة، ومواطن القصف المذكورة.
ولمحمد بن عبد الملك الهاشمي، فيه:
ولربّ يوم في سمالو تم لي ... فيه السرور وغيّبت أحزانه
وأخ يشوب حديثه بحلاوةٍ ... يلتذّ رجع حديثه ندمانه
صافي الرّحيق من المدام شرابة ... والمحسنات من الأوانس شانه
بكرت عليّ به الزيارة فاغتدى ... طرباً إليّ وسرّني اتيانه
فأمرت ساقينا وقلت له اسقنا ... قد حان وقت شرابنا وأوانه
فتلاعبت بعقولنا نشواته ... وتوقّدت بخدودنا نيرانه
حتى حسبت لنا البساط سفينةً ... والدير ترقص حولنا حيطانه
ولخالد الكاتب، فيه:
يا منزل القصف في سمالو ... ما لي عن طيبك انتقال
واهاً لأيامك الخوالي ... والعيش صاف بها زلال
تلك حياة النفوس حقاً ... ولك ما دونها محال
وهو أبو الهيثم خالد بن يزيد الكاتب. وكان مليح الشعر رقيقه، لا يقول إلا في الغزل، ولا يتجاوز الأربعة أبيات، ولا يزيد عليها. ولم يكن له شعر في مدح ولا هجاء.
وذكر ميمون بن حماد، قال: دخل علي يوماً أبو عبد الله ابن الاعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله، سمعت من شعر هذا الغليم شيئاً؟ قال: من هو؟ قلت: خالد بن يزيد. قال: لا، وإني لأحب ذلك! فصح به. فجاء حتى وقف. فقلت: أنشد أبا عبد الله شيئاً من شعرك. فقال: إنما أقول في شجون نفسي، لا أمدح ولا أهجو. فقلت: أنشده، فأنشده.
أقول للسقم عد إلى بدني ... حُباً لشيء يكون من سببك
فقال ابن الاعرابي: حسبك يا غلام! فقد خيل إلي أن الرقة قد جمعت لك في هذا البيت.
قال جحظة: حدثني خالد الكاتب، قال: كنت بدير سمالو، لم أشعر إلا ورسول إبراهيم ابن المهدي قد وافاني. فدخلت إليه، فإذا برجل أسود مشفراني قد غاص في الفراش، فاستجلسني، فجلست. فقال: أنشدني شيئاً من شعرك، فقلت: أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح ولا أهجو. فقال: ذلك أشد لدواعي البلاء، فأنشدته:
رأت منه عيني منظرين كما رأت ... من البدر والشمس المضيئة بالأرض
عشية حيّاني بوردٍ كأنه ... خدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض
وناولني كأساً كأن رضابها ... دموعي لما صدّ عن مقلتي غمضي
وولى وفعل السّكر في حركاته ... من الراح، فعل الريح بالغصن الغضّ
فزحف، حتى صار في ثلثي المصلى. ثم قال: يا بني، شبه الناس الخدود بالورد، وشبهت أنت الورد بالخدود! زدني، فأنشدته:
عاتبت نفسي في هوا ... ك، فلم أجدها تقبل
وأجبت داعيها إلي ... ك، ولم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... هـ لحسن وجهك تمثل
لا قلت أن الصبر عن ... ك من التصابي أجمل
فزحف، حتى صار خارج المصلى، ثم قال: زدني! فأنشدته:
عش فحبّيك سريعاً قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الحبّ بقلبٍ دنف ... بك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئابِ وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل
فصاح وقال: يا بليق: كم لي معك من العين؟ قال: ستمائة وخمسون ديناراً، قال: اقسمها بيني وبينهن واجعل الكسر كاملاً للغلام.