فسر المتوكل بذلك سروراً شديداً، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين. فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت كاليوم قط، ولا أرى، أبقاك الله ما دامت السموات والأرض! وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول كثير!. فقال لي إسحق: ويلك! جزعت على أذنك وغمك قطعها؟ ولم؟ حتى تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال لي: ويلك! لو أن لك مكوك آذان، أيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: وأعاده المتوكل إلى خدمته. وكان إذا دعا به، قال على جهة المزاح: يا با عبيد.
ولما رضي عنه، قال له: هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره. فوهب له جارية يقال لها صاحب، من جواريه، حسنة كاملة الأدب، إلا أن بعض الخدم رد السبطانة على فمها، وقد أرادت أن ترميه، فصدع إحدى ثنيتيها، فاسودت، فشانها ذلك عنده. وحمل معها كل ما كان لها: وكان شيئاً عظيماً كثيراً. فلما مات أبو عبد الله، تزوجت صاحب بعض العلويين. قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول لي:
أبا علي، ما ترى العجائبا ... أصبح جسمي في التراب غائبا
واستبدلت صاحب بعدي صاحبا
ولأبي عبد الله شعر جيد. ومن شعره يعاتب علي بن يحيى:
من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني
كان لي خلاً وكنت له ... كامتزاج الرّوح بالبدن
فوشى واش، فغيّره ... وعليه كان يحسدني
إنما يزداد معرفةً ... بودادي حين يفقدني
قال: واتصل بنجاح بن سلمة، إن أبا عبد الله بن حمدون، يذكره ويتنادر به بين يدي المتوكل. فلقيه نجاح يوماًن فقال له: يا أبا عبد الله: قد بلغني ذكرك لي بحضرة أمير المؤمنين بغير الجميل، ولم يخف علي قولك! أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت به: أتراني أحبه، وقد فعل بي ما فعل؟ والله، ما وضعت يدي على أذني إلا تجددت له بغضة في قلبي. فقال ابن حمدون: الطلاق له لازم إن كان قال هذا قط، وامرأته طالق إن ذكرتك بغير ما تحبه أبداً! قال: كان إبراهيم بن محمد بن مدبر، يلاعب أبا عبد الله بالنرد. فإذا غلبه شيئاً، دفعه إلى كردية المغنية، جارية محمد بن رجا. فغلبه يوماً عشرين ديناراً، فأخذها منه ودفعها إليها. فكتب إليه أبو عبد اله بعد ذلك:
تقضي الحقوق بمالي ... وأنت تعرف حالي
إن دام هذا عليّ ... أفقرتني وعيالي!
وكان أبوه إبراهيم وأظن أنه الملقب بحمدون بن إسماعيل، ينادم المعتصم، ثم الواثق بعده. وكان يعابث المتوكل في ذلك الوقت. وجاءه مرة بحية في كمه، وأخرج رأسها تعريضاً بأمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق.
قال: فلما مات الواثق، نادم حمدون المتوكل. قال: فلما كان في بعض الأيام، أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، وكانت من الحسن والاحسان على ما لم ير مثله. وقال للخدم. إن لم تجيء فجيئوني برأسها! فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء يشبه الندبة والمرثية، فأسمعها، وأمرها أن تغني غيره. فبكت وغنت غناء شجياً بحزن. فزاد ذلك في طيب غنائها، فوجم حمدون للرقة التي تداخلته! فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزناً عليه، وكان يبغض كل من مالي إليه! فأمر بنفيه إلى السند وضربه ثلثمائة سوط! فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك. وأقام منفياً ثلاث سنين. وتزوج المتوكل فريدة بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن.
قال: دعا إبراهيم جماعة من المغنين، فيهم جحظة وقاسم بن زرزر، وكان فيها عمه أبو محمد بن حمدون. فجعل إبراهيم يحاكي واحداً واحداً من المغنين. فقال له عمه: لا تحاك جحظة، ولا يكن بينك وبينه عمل! فلم يقبل، وحاكاه. فلم يزل جحظة يحتال في شيء يكتب فيه، إلى أن وجد رقعة، فكتب فيها:
حصلت على حكاية من يغني، ... فحاك لنا العجوز إذا تغنّت
وحاك لنا لبيباً إذ أتاها ... فأعطاها القمدّ كما تمنّت
فقال له عمه: ألم أقل لك: عقرب، لا تقرب!