وكان حسن الكتابة، بليغ الخطابة، مليح الشعر، طلق اللسان بالذم والاستبطاء، سريع الجواب، حاضر النادرة، لا يقام له.

وقال المتوكل: اشتهى أنادم أبا العيناء لولا أنه ضرير! فبلغ ذلك أبا العيناء، فقال: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة،! ونظم اللآلىء واليواقيت، وقراءة نقوش الخواتيم، فإني أصلح له.

وحجب محمد بن مكرم أبا العيناء، ثم كتب يعتذر منه. فكتب إليه أبو العيناء: تحجبني مشافهة وتعتذر إلي مكاتبة! وأخباره كثيرة، ولكنا أوردنا بمقدار ما يحتمله الكتاب، ويقتضيه الشرط، ولا يخرج قارئه إلى الملل.

وكتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: عندي سكباج ترعب المجنون، وحديث يطرب المحزون، وإخوانك المحازون؟ فلا تعلو علي واتون. فأجابه أبو العيناء: اخسئوا فيها ولا تكلمون.

دير الخوات

هذا الدير بعكبرا. وهو دير كبير عامر، يسكنه نساء مترهبات متبتلات فيه. وهو وسط البساتين والكروم، حسن الموقع، نزه الموضع. وعيده الأحد الأول من الصوم. يجتمع إليه كل من يقرب منه من النصارى والمسلمين، فيعيد هؤلاء، ويتنزه هؤلاء. وفي هذا العيد ليلة الماشوش، وهي ليلة تختلط فيها النساء بالرجال، فلا يرد أحد يده عن شيء، ولا يرد أحد أحداً عن شي. وهو من معادن الشراب، ومنازل القصف، ومواطن اللهو.

وللناجم أبي عثمان، فيه:

آح قلبي من الصّبابة آح ... من جوارٍ مزيّنات ملاح

وفتاة كأنها غصن بان ... ذات وجه كمثل نور الصّباح

أهل دير الخوات بالله ربي ... هل على عاشق قضى من جناح

وكان أبو عثمان هذا، راوية ابن الرومي. وهو مليح الشعر، رفقي الطبع، جيد المعاني في وصف الخمر والأغاني والغزل.

ومن مليح شعره:

أدر يا سلامة كأس العقار ... وضاه بشدوك شدو القماري

وخذها معتّقةً مُزّة ... تصبّ على الليل ثوب النهار

ينازعها الخدّ جريالها ... فيهديه للعين يوم الخمار

ومن مليح شعره:

سلامة بن سعيدٍ ... يجيد حثّ الرّاح

إذا تغنّى زمرنا ... عليه بالأقداح

وله:

ما نطقت عاتبٌ ومزهرها ... إلا وهمنا باللهو والفرح

لها غناء كالبرء في جسدٍ ... أضناه طول السقام والترح

تعبده الراح فهي ما نطقت ... إبريقنا ساجد على القدح

وله:

ما نطقت عاتبٌ ومزهرها ... إلاّ ظللنا بالرّاح نعملها

تطلب أوتارهما الهموم بأو ... تار فما تستفيق تقتلها

وله، وفيه لحن:

ما دعاني الشّوق إلا ... أذرت العين دموعا

إنما أبكي لأني ... صرت للحبّ رضيعا

أحسن الناس وأولى الن ... اس بالحسن جميعا

ما أرى لي عن حبيبي ... أبد الدّهر نزوعا

دير العلث

والعلث، قرية على شاطىء دجلة، في الجانب الشرقي منها، وبين يديها من دجلة موضع صعب، ضيق المجاز، كبير الحجارة، شديد الجرية، تجتاز فيه السفن بمشقة. وهذه المواضع تسمى الأبواب. وإذا وافت السفن إلى العلث، أرست بها، فلا يتهيأ لها الجواز إلا بهادٍ من أهلها يكترونه، فيمسك السكان ويتخلل بهم تلك المواضع، فلا يحطها حتى يتخلص منها.

وهذا الدير راكب دجلة. وهو من أحسن الديارات موقعاً وأنزهها موضعاً، يقصد من كل بلد، ويطرقه كل أحد. ولا يكاد يخلو من منحدر ومصعد. ومن دخله لم يتجاوزه إلى غيره لطيبه ونزهته ووجود جميع ما يحتاج إليه بالعلث وبه.

ولجحظة، فيه:

أيها المالحان بالله جُدّا ... واصلحا لي الشراع والسكانا

بلّغاني، هديتما، البردانا ... وانزلا بي من الدنان دنانا

واعدلا بي إلى القبيصة فالزهر ... اء، علّي أفرّج الأحزانا

وإذا ما أقمت حولاً تماماً ... فاقصدا بي إلى كروم أوانا

وانزلا بي إلى شرابٍ عتيق ... عتّقته يهوده أزمانا

واحططا لي الشراع بالدير بالعل ... ث، لعلي أعاشر الرهبانا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015