قال أبو العيناء: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان يوماً صائفاً، وقوم بين يديه يلعبون بالشطرنج. فقال: يا أبا عبد الله، إنا نلعب في ندب إلى أن يدرك طعامنا، ففي أي الحزبين تحب أن تكون؟ قلت: في حزب الأمير، أيده الله، فإنه أعلى وأبهى. فغلبنا! فقال أبو أحمد: يا أبا عبد الله، قد غلبنا! وقد أصابك بقسطك عشرون رطلاً ثلجاً. أحضره أيها الأمير. ووثبت، فصرت إلى أبي العباس بن ثوابة، فأقرأته السلام من أبي أحمد، وقلت له: إنه يتشوقك، وأراد أن يكتب إليك رقعة، فخاف مراوغتنك، فوجهني رسولاً، وحملني رسالة، ولسنا نفترق إلا بحضرته! فركب معي، وجئنا. فلما وقفت بين يديه، قلت: أيها الأمير، قد جئتك بجبل همذان ثلجاً، فاقتض منه ما قمرنا، والعب مع أصحابك في الباقي! فضحك حتى استلقى! وسأل ابن ثوابة عن القصة، فعرف الخبر، فلما وقف عليها، شتمني وانصرف! قال أبو العيناء: دخلت على المتوكل، ودعوت له، وكلمته. فاستحسن خطابي، وقال لي: بلغني أن فيك شراً! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله جل وعز، وذم. فقال في التزكية: نعم العبد إنه أواب. وقال في الذم: هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. فذمه، تعالى اسمه. وقد قال الشاعر:

إذا أنا بالمعروف لم أثن دائباً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمّما

ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما

وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع النبي والذمي بطبع لا يميز فقد صان الله عبدك عن ذلك.

فقال لي: وبلغني أنك رافضي. فقلت: يا أمير المؤمنين، وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشأي في مسجد جامعها، واستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة. وليس يخلو الناس من إرادة دين أو دنيا. فإن أرادوا ديناً، فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وتأخير من قدموا. وإن أرادوا دنيا، فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين، لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك. أبوك مستنزل العيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك. فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك! فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرق ذاك بين الامام والمأموم والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درة ومعلم صبية وآخذ على كتاب الله أجرة. فقال: لا تفعل لأنه مؤدب المؤيد. فقلت يا أمير المؤمنين، إنه لم يؤدبه حسبة وإنما أدبه بأجرة، فإذا أعطيته حقه قضيت ذمامه. فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء، لا، والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني! ثم أقبل على المتوكل فقال: أي شيء أسهل عليك، يا أمير المؤمنين، من أن ينقضي مجلسك على ما تحب، ثم يخرج هذا فيقطعني! قال: فضحك المتوكل.

فقال: كيف داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأنت جعلت الدنيا في دارك! فقال لي: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فقلت: العبد لله ولك، منقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح رعيتك على كل لذة.

فقال: ما تقول في صاحب البريد ميمون بن إبراهيم؟ وكان عرف أني وجدت عليه في تقصير وقع بي منه، فقلت: يا أمير المؤمنين: يد تسرق، واست تضرط! هو مثل يهودي قد سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى؛ ومعه إحجام لما بقى. إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف! فقال: إني أريدك لمجالستي. فقلت: لا أطيق ذاك، ولا أقوى عليه. وما أقول هذا جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف؛ ولكني رجل حجوب، والمحجوب تختلف إشارته ويخفى عليه إيماؤك، ويجوز علي أن أتكلم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان. ومتى لم أميز بين هذين، هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء. قال: صدقت! ولكن تلزمنا. قلت: لزوم الفرض الواجب. فوصلني بعشرة آلاف درهم.

وقال لي يوماً، وقد دخلت إليه: يا محمد، ما بقي في المجلس أحد إلا اغتابك غيري، فقلت:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً علي لئامها

وهو أبو عبد الله، محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان. وأصله من اليمامة من بني حنيفة أنفسهم. وكان مسكنه بالبصرة. ثم انتقل إلى بغداد، وانتجع سر من رأى، ولقي الموكل، وأقام بها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015