ثانيًا: ومن الملامح الواضحة في شخصية صلاح الدين شغفه بالجهاد, قال القاضي ابن شداد: «وكان -رحمه الله- شديد المواظبة على الجهاد, عظيم الاهتمام به, ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا إلا في الجهاد, وفي الإرفاد لصدق, وبر في يمينه, ولقد كان الجهاد قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيمًا, بحيث ما كان له حديث إلا فيه, ولا نظر إلا في آلته, ولا اهتمام إلا برجاله, ولا ميل إلا إلى من يذكره, ويحث عليه, ولقد هجر في محبته «الجهاد» أهله وولده ووطنه وسكنه, وقنع بالدين بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة, وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد, وقد سرنا مع السلطان على الساحل نطلب عكا وكان الزمان شتاءً عظيمًا, والبحر هائجًا وموجه كالجبال, وكنت حديث عهد برؤية البحر فعظم عندي, واستخففت رأي من يركب البحر, بينما أنا في ذلك إذ التفت إليَّ وقال في نفسه: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد, وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتبعهم فيها حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت, فعظم وقع هذا الكلام عندي وحكيت له ما خطر لي, فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها, وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجسرها, اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده في نصرة دينك رجاء رحمتك فارحمه, وأما صبره فلقد رأيته بمرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس, وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر, وهو صابر على شدة الألم ويقول: «إذا ركبت يزول عني الألم حتى أنزل» (?).
إن في زماننا هذا اندفاعًا عظيمًا نحو ساحات الوغى, والشاهد على ذلك ما حدث في أفغانستان, وما نسمعه من تضحيات عظيمة في الأرض المحتلة, إلا أن في بعض بلاد المسلمين من أشرف على الحركات الجهادية إخوة لنا تنقصهم خبرات كثيرة من فهم لسننن الله في تغيير الشعوب والمجتمعات, والأهم من ذلك معرفتهم