فقال صلاح الدين رحمه الله: وهو كذلك صحيح. فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق, فلما قرأ القارئ: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129]. تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه, ومات رحمه الله وجعل الجنة مثواه, وكان له من العمر سبع وخمسون سنة, ثم أخذوا في تجهيزه وحضر جميع أولاده وأهله, وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي, وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال, وأمَّ الناس عليه ابن الزكي, ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة في دمشق, ونزل ابنه الأفضل في لحده ودفنه وهو يومئذ سلطان الشام, ويقال: إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد, وذلك عن أمر القاضي الفاضل, وتفاءلوا بأن يكونه معه يوم القيامة يتوكأ عليه, حتى يدخل الجنة إن شاء الله (?).

لقد وقع نبأ صلاح الدين على المسلمين جميعًا وقع الصاعقة للصدمة الفادحة, والمصاب الجلل. وهذا القاضي ابن شداد يصف لنا ذلك المشهد المريع إذ يقول: «وكان يوم موته يومًا لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد فقد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وغشي القلعة والمُلك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله تعالى, وبالله لقد كنت أسمع الناس أنهم يتمنون فدا من يعز عليهم بنفوسهم, وكنت أتوهم أن هذا ضرب من التجوز والتخرص إلى ذلك اليوم, فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قُبل الفداء لفدي بالأنفس» (?).

لقد كان صلاح الدين -رحمه الله- قائدًا ربانيًا تربى في أجواء علمية رسخت في زمن نور الدين, واستمرت في عهده فأخرجت هذا الأنموذج الرفيع الذي أعاد الله به للأمة عزتها وقوتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015