والإنصاف, وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس, فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه, لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا, وأما عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة, فلم يترك في بلاده ضريبة ولا مكسًا ولا غشًا, بل منعها رحمه الله جميعًا في بلاد الشام والجزيرة ومصر (¬1).
ومن عدله أنه بنى دارًا للعدل, وكان سبب بنائها أن أمراءه وقواد جيوشه تعدوا على من يجاورهم, فكثرت الشكاوي إلى القاضي كمال الدين, فأنصف بعضهم ولم يتجرأ على القائد أسد الدين شيركوه, فلما سمع نور الدين بذلك بنى هذه الدار وأحس أسد الدين بهذا فقال لنوابه: «والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنه, فامضوا إلى كل من بينكم وبينه منازعة فأرضوه وافصلوا الحال معه, فقالوا: إذا فعلنا هذا فإن الناس يشتطون في الطلب, فقال: خروج أملاكي عن يدي أسهل عليَّ من أن يراني نور الدين بعين ظالم, وكان نور الدين يجلس في هذه الدار يومين في الأسبوع, فلما علم ما حصل مع أسد الدين شيركوه سجد لله شكرًا.
وكان فعاله في بلاد الإسلام من المصالح كثيرة, فقد بنى أسوار مدن الشام جميعها وأحكم بناءها, وبنى المدارس بحلب وحماة ودمشق, وكان أهل الدين عنده في أعلى محل. وكان أمراؤه يحسدونهم على ذلك, فقد ذكر أحد الأمراء الشيخ قطب الدين النيسابوري أمام نور الدين فقال له السلطان: يا هذا, الذي تتكلم عليه له حسنة تغفر كل زلة وهي العلم والدين, وأما أنت وأصحابك ففيكم أضعاف ما ذكرت, وليست لكم حسنة تغفرها, وأنا أحمل سيئاتكم مع عدم حسناتكم, أفلا أحمل سيئة هذا -إن صحت- مع وجود حسناته, على أنني والله لا أصدقك فيما تقول, وإن عدت وذكرته بسوء لأؤدبنك» (?).
ومن عفته وتقواه أن ما كان يُهدى إليه من هدايا الملوك لا يتصرف في شيء منه