والشدة فإنه يأتي من عبد الله بن الزبير الذي كان يتمتع على ما يبدو من تأييد واسع النطاق بين معظم المعارضين للحكم الأموي، ولأنه كان رجل سياسة وحرب من الطراز الأول، وعلى الجملة فإن وصية معاوية تعكس سياسته ودهاءه في تصريف الأمور، فنراه من خلال الوصية يتعامل مع الأحداث التي تتطلب الشدة حزماً، وفيما عدا ذلك فهو يستخدم خبرته وتجربته السياسية الطويلة في مواجهة الأحداث، وقد وصف معاوية نفسه مشيراً إلى هذه السياسة بقوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها (?)، وكان على الدوام يوصي يزيد بهذه السياسة فيقول له: عليك بالحلم، والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور (?). وفي هذه الوصية يلخص معاوية رضي الله عنه منهجه وخبرته في السياسة والإدارة لابنه يزيد في كلمات قليلة جامعة تنم عما يتمتع به هذا الصحابي الكريم من حنكة سياسية وبراعة إدارية (?).

2 ـ آخر خطبة لمعاوية رضي الله عنه واشتداد مرضه ووفاته:

كانت آخر خطبة خطبها معاوية رضي الله عنه قوله: أيُّها الناس إني من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا وفى أجلي فوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فليُنعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم أعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأُذُنيَّ وعيْنيَّ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين (?).

ولما احتضر معاوية جعل يقول:

لعمري لقد عُمِّرتُ في الدهر بُرهة

ودانت لي الدنيا بوقع البواتر

وأعطيت حُمْرَ المال والحكم والنّهى

وسِلْمَ قماقيم (?) الملوك الجبابر

فأضحى الذي قد كان مما يَسُرُّني

كحلم مضى في المزمنات الغوابر

فيا ليتني لم أُعن في الملك ساعة

ولم أُعْنَ في لذات عيشٍ نواضر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015