الخير حين يلتزمون به ما لا يحققه نظام آخر (?)، والحق أنه قد بقي في مجتمع بني أمية أفراد على المستوى الرائع، بل لم يخل جيل من أجيال المسلمين كلها ـ حتى في عصور الانحطاط ـ من نماذج متفرقة على ذلك المستوى الرفيع، إنما الملحوظة أن كثافة تلك النماذج في مجتمع الذروة كانت فذة بصورة غير عادية، ثم ظلت تخف تدريجياً مع مرور الزمان (?).
إن استئناف حركة الجهاد في عهد معاوية لم يكن بدعة على سياسته فقد استمد كثيراً من الشهرة العريضة والمكانة العريضة من كفايته كوال على بلاد الشام وهي جبهة واسعة من جبهات الجهاد، ومن شهرته كمجاهد موفق في البر والبحر منذ عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكان له فتوحاته الكبرى في الساحل الشمالي للشام، كما أن له الفضل ـ بعد الله ـ في تأسيس البحرية الإسلامية وهزيمة الروم في البحر وانتزاع السيادة منهم لأول مرة في تاريخ المسلمين (?)، فالجهاد في سبيل الله أصل في حياة المسلمين في عهد الدولة الأموية، ولم تكن الغنائم هي الدافع للقيادة الإسلامية الرئيسي نحو الفتح والجهاد، وإن وجد لدى بعض الأفراد وهؤلاء لا يخلو منهم جيش حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ((منكم من يريد الدنيا ... )) وغيرها ولكن هذا بالطبع لا يمثل وجهة نظر المسلمين في فتوحاتهم، ولا يمثل القيادة الفكرية التي كان يتبناها الخليفة والقادة وينفذها الجند، كما أنه لا يمثل وجهة نظر الأمة ورأيها العام (?)، ومما يدل على ذلك مشاركة كبار الصحابة في ذلك الوقت فيها وحثهم المسلمين على الجهاد في سبيل الله، وحوادث الجهاد وجهود الأمويين على جبهات القتال توضح ذلك: فجبهة الروم مثلاً وهي التي كانت مثار الشجاعة ومرتع البطولة ما كانت تدر الربح الكثير بل كان بيت المال يئن منها، لأن حملاتها ما كانت تنتهي إلى تقدم (?)، خاصة إذا ذكرنا الحملات الثلاثة الكبرى التي توجهت إلى القسطنطينية وتكلفت نفقات باهظة (?).
لقد أعطى المجاهدون المسلمون في العهد الأموي صوراً رائعة للتضحية والبطولة والتجرد وإخلاص النية لله في جهادهم، سواء كانوا من القادة أو الأمراء أو من عامة الجند، أو من جماعات العلماء والزاهدين والربانيين الذين فهموا عبادة الجهاد، ومارسوا ذلك على نحو مثير للإعجاب ودافع إلى التأسي، وقد توزعت صور الإخلاص والتضحية هذه على جميع جبهات القتال، وفي جميع مراحل الجهاد، مما يدل دلالة واضحة على عمق التوجه الإسلامي للفتوحات في العهد الأموي، وينفي الغبش الذي يثيره المنحرفون عن بني أمية على