فهذا الخبر فيه موقف كبير لأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه في الحكمة والسياسة, فهو بعد أن استشار ابنه يزيد بعض وجهاء الشام لم يعجبه رأيهم ولم يوافقهم على أخذ الناس بالشدة والعنف والجبروت, بل سارع إلى إرسال عطاء الأنصار رضي الله عنهم, ولم يؤاخذ ثابت بن قيس رضي الله عنه على شدة اللهجة في كتابة إليه, وبهذا التصرف الحكيم والسياسة الرشيدة لم يخسر شيئاً بل كسب رضى الأنصار عنه ورضى غيرهم ممن يطلع على خبره معهم, ولو أنه أخذ بمشورة السذج المتجبرين فبطش بصاحب ذلك الكتاب لثار عليه الأنصار, ولناصرهم طوائف من المسلمين لشهرتهم ومكانتهم في الإسلام (?).
جـ - الأحنف بن قيس - رحمه الله -:
ذكر ابن خلكان في ترجمته: ثم إن عبيد الله - يعني ابن زياد أمير العراق - جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية, فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق, فقال: أدخلهم عليَّ أوَّ لاً فأوَّل على قدر مراتبهم عندك, فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب كما قال معاوية, وآخر من دخل الأحنف, فلما رآه معاوية - وكان يعرف منزلته ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته - قال: إليَّ يا أبا بحر, فتقدم إليه فأجلسه معه على مرتبته, وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحادثه, وأعرض عن بقية الجماعة. قال: ثم إن أهل العراق أخذوا في الشكر في عبيد الله والثناء عليه, والأحنف ساكت, فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم, فقال له معاوية: اشهدوا علي أنني قد عزلت عبيد الله عنكم, قوموا انظروا في أمير أوليه عليكم وترجعون إلىَّ بعد ثلاثة أيام. قال: فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم, وفيهم من عيَّن غيره, وسعوا في السَّر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك, ثم اجتمعوا بعد انقضاء الثلاثة كما قال معاوية, والأحنف معهم, ودخلوا عليه فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول, وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا وحادثه ساعة, ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصاً وطال حديثهم في ذلك وأفضى إلى منازعة وجدال, والأحنف ساكت, ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء, فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بحر؟ فقال الأحنف: إن ولَّيت أحداً من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله ولا يسد مسدَّه, وإن وليت من غيرهم فذلك إلى رأيك, ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجالس الأول في الثناء على عبيد الله, من ذكره في هذا المجلس ولا سأل عوده إليهم.
قال: فلما سمع معاوية مقالة الأحنف قال للجماعة: اشهدوا علي أني قد أعدت عبيد الله إلى ولايته, فكل منهم ندم على عدم تعيينه, وعلم معاوية أن شكرهم لعبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه, بل كما جرت العادة في حق المتولي. قال: فلما فصل الجماعة من مجلس