أُخير بين أمرين, وبين الله وغيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه, وأنا على دين يقبل الله فيه العمل, ويجزي فيه بالحسنات, ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء, فأنا احتسب كل حسنة عملتها بأضعافها, وأوازي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا تحصيها من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين, والجهاد في سبيل الله عز وجل, والحكم بما أنزل الله تعالى, والأمور التي ليست تحصيها وإن عددتها لك. قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر. قال عروة: فلم يُسمع المسور بعد ذلك يذكرمعاوية إلا استغفر له (?)
وفي هذا الخبر مثل جيد في فن الإقناع ومحاولة إمتصاص غضب المخالفين وتحويل قناعاتهم, فقد استطاع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أن يقنع المسور بن مخرمة رضي الله عنه بتقبل سياسته التي يسير عليها, وعاد مادحاً داعياً له بعدما كان منتقداً مهاجما له, وفي هذا الخبر لفتة تربوية من معاوية حيث أبان من العدل في الحكم على المسلم أن ينظر الحاكم عليه إلى حسناته وصوابه مع أن ينظر إلى سيئاته وخطئه, ثم يوازن بين الجانبين, فلعل هذا المسلم الذي برزت أخطاؤه في ذهن من تصدى لنقده تكون له حسنات كثيرة جليلة قد لا تعد أخطاؤه إلى جانبها شيئاً مذكوراً (?).
ب ـ ثابت بن قيس بن الخطيم الانصاري رضي الله عنه:
كان ثابت بن قيس بن الخطيم, شديد النفس, وكان له بلاء مع علي بن أبي طالب, واستعمله علي بن طالب على المدائن, فلم يزل عليها حتى قدم المغيرة بن شعبة الكوفه, وكان معاوية يتقي مكانه. انصرف ثابت بن قيس إلى منزله فوجد الأنصار مجتمعة في مسجد بني ظفر يريدون أن يكتبو إلى معاوية في حقوقهم أول ما استخلف, ... فقال: ما هذا, فقالوا: نريد أن نكتب إلى معاوية. فقال ما تصنعون أن يكتب اليه جماعة؟! يكتب إليه رجل منا فإن كانت كائنة برجل منكم فهو خير من أن تقع بكم جميعاً وتقع أسماؤكم عنده فقالوا: فمن ذلك الذي يبذل نفسه لنا؟ قال: أنا. قالوا: فشأنك, فكتب إليه وبدأ بنفسه فذكر أشياء منها: نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. وقال: حبست حقوقنا واعتديت علينا وظلمتنا, ومالنا إليك ذنب إلا نصرتنا للنبي صلى الله عليه وسلم, فلما قدم كتابه إلى معاوية دفعه إلى يزيد فقرأه ثم قال له: ما الرأي, فقال: تبعث فتصلبه على بابه, فدعا كبراء أهل الشام فاستشارهم, فقالوا: تبعث إليه حتى تقدم به ههنا وتقفه لشيعتك ولأشراف الناس حتى يروه, ثم تصلبه. فقال: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: لا, فكتب إليه: قد فهمت كتابك, وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنها كانت ضجرة لشغلي وما كنت فيه من الفتنة التي شهرت فيها نفسك فأنظرني ثلاثاً, فقدم كتابه على ثابت فقرأه على قومه, وصبَّحهم العطاء في اليوم الرابع (?).