يقول فضيلة المرحوم الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى- في هذا الصدد: "فما توفي رسول الله إلا وقد كان الإسلام ناضجًا تامًّا، لا طفلًا يافعًا، كما يدَّعي هذا المستشرق، نعم لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أن واجه المشترعين المسلمين جزئيات وحوادث، لم ينصَّ على بعضها في القرآن والسنة؛ فأعملوا آراءَهم فيها قياسًا واستنباطًا حتى وضعوا لها الأحكامَ، وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك أن تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول أن عمر سيطر على مملكتي كسرى وقيصر، وهما ما هما في الحضارة والمدنية، فاستطاع أن يسوس أمورهم، ويحكم شعوبهما بأكمل وأعدل مما كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما، أترى لو كان الإسلام طفلًا كيف كان يستطيع عمر أن يننهض بهذا العبء، ويسوس ذلك الملك الواسع، ويجعل لهم من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة ما لم ينعم بهما في عهد ملكيهما السابقين؟
على أن الباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبَّدون عبادة واحدةً، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويُقيمون أسس أسرهم وبيوتهم على أساس واحد، وهكذا كانوا متحدين في العبادات، والمعاملات، والعقيدة، والعادات غالبًا، ولا يمكن أن يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تامّ ناضج، وضع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها، ولو كان الحديث، أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين؛ للزم حتمًا ألا تتحدَّا عبادة المسلم في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ أن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما من البعد ما بينهما؟ ".