فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة ففعلت، وركب مصعب ناقته وجعل ينظر على عائشة بمؤخر عينه مثل ما فعل جميل ويسير حتى غاب عنهما ثم رجع. وجاء جميل إلى بثينة ليلة وقد تزيا بزي راع لبعض الحي، فوجد عندها ضيفان لها فانتبذ ناحية وجلس فيها فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين مكاتب فعشت ضيفانها وعشته وحده ثم جلست هي وجارية لها تجاه النار تصطليان واضطجع القوم منتحين فقال جميل:

هل البائس المقرور دان فمصطل ... من النار أو معطى لحافا فلابس

فقالت لجاريتها: صوت جميل والله اذهبي فانظري فذهبت ثم رجعت وقالت: هو والله جميل فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون، وقالو: ما لك فطرحت بردا لها من حبرة في النار وقالت: احترق بردي، فرجع القوم وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به فحبسته عندها ثلاث ليال ثم ودعها وخرج.

ورصدها ليلة في نجع لبني عذرة حتى إذا صادف منها فرصة وهي مارة مع أترابها في ليلة ظلماء ذات رعود وأمطار فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت: والله ما حذفني في مثل هذا الوقت إلا الجن فقالت لها بثينة -وقد فطنت-: انصرفي على منزلك حتى نذهب إلى النوم، فانصرفت وبقي مع بثينة أم الحسين وأم منظور فقامت إلى جميل فأخذته إلى الخباء معها وتحدثا طويلا ثم اضطجع واضطجعت إلى جانبه فذهب بهما النوم حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها زوجها (يظهر من تواريخ العرب أنهم كانوا على الطريقة التي اتخذها الإفرنج في وقتنا هذا بأن الزوج لا يرقد وزوجته في محل واحد بل كل منهما في محل) فلما رآها نائمة مع جميل مضى لوجهه حتى يخبر سيده فرأته ليلى والصبوح معه وكانت قد عرفت خبر بثينة وجميل فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارتها لها وقالت: حذري بثينة وجميلا، فجاءت الجارية فنبهتهما، فلما تبنيت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين أرتاعت وقالت: يا جميل نفسك نفسك فقد جاءني غلام زوجي بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين فقال لها وهو غير مكترث لما خوفته منه:

لعمرك ما خوفتني من مخافة ... بثين ولا حذرتني موضع الحذر

فأقسم لا يلفي لي اليوم غرة ... وفي الكف مني صارم قاطع ذكر

فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت: إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك, ففعل ما أمرته به ونامت كما كانت, وأضجعت أم الحسين إلى جانبها, وذهبت خادمة ليلى وأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيده فمضى والصبوح معه وقال: إني رأيت جميلا مع بثينة في فراش واحد مضطجعا إلى جانبها فمضى إلى أخيها وأبيها وأخبرهم الخبر وأخذهما وأتى بهما إلى خباء بثينة وهي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الحسين إلى جانبها نائمة, فخجل زوجها وسب عبده وقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح قبحه الله, وقبحكما معه. وجعلا يسبان زوجها ويقولان له كل قول قبيح وأقام جميل عند بثينة حتى جن الليل ثم ودعها وانصرف وخافت بثينة مما جرى فتحامت منه مدة فقال في ذلك:

أإن هتفت ورقاء ظلت سفاهة ... تبكي على جمل لورقاء تهتف

فلو كان لي بطرم يا صاح طاقة ... صرمت ولكني عن الصرم أضعف

لها في سواد القلب بالحب منعة ... هي الموت أو كادت على الموت تشرف

وما ذكرتك النفس يا بثن مرة ... من الدهر إلا كادت النفس تتلف

وإلا اعترتني زفرة واستكانة ... وجادلها سجل من الدمع يذرف

وما استطرفت نفسي حديثا لخلة ... أسر به إلا حديثك أطرف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015