اليوم أيقنت أن الهجر متلفة ... وأن صاحبه منه على خطر
كرب الحياة لمن أمسى على شرف ... من الميتة بين الخوف والحذر
يلوم عينيه أحياناً بذنبهما ... ويحمل الذنب أحياناً على القدر
تنأون عنه وينأى قلبه معكم ... فقلبه أبداً منه على سفر
فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت: لا أهجرك والله أبداً ما حييت. وبعد ذلك بمدة غضبت عليه فكتب إليها:
يا أيها الظالم ما لي ولك ... أهكذا تهجر من واصلك
لا تصرف الرحمة عن أهلها ... قد يعطف المولى على من ملك
ظلمت نفساً فيك علقتها ... فدار بالظلم على الفلك
تبارك الله فما أعلم الله ... بما ألقى وما أغفلك
فراجعت وصله وسارت إليه جواباً لرقتها: وكان سعيد يوماً في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه غلام برقعة فضل, فقرأها وضحك فقال الحسن بن مخلد: بحياتي عليك أقرأتها فدفعها إليه فقرأها وإذا هي تشكو فيها شدة شوقها إلى سعيد فضحك وقال: قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها:
يا واصف الشوق عندي من شواهده ... قلب يهيم وعين دمعها يكف
والنفس شاهدة بالود عارفة ... وأنفس الناس بالأهواء تأتلف
فكن على ثقة مني وبينة ... أني على ثقة من كل ما تصف
فلما وصل إليها الجواب طاب قلبها وسارت إليه وأقامت عنده عامة النهار وكرت راجعة. ولما تعشقت بنان ابن عمر المغني وعدلت عن سعيد أسف عليها وأظهر تجلداً ثم قال فيها:
قالوا تعزى وقد بانوا فقلت لهم ... بأن العزاء على آثار من بانا
وكيف يملك سلوانا لحبهم ... من لم يطق للهوى سراً وكتمانا
كانت عزائم صبري أستعين بها ... صارت علي بحمد الله أعوانا
لا خير في الحب لا تبدي شواكله ... ولا ترى منه في العينين عنوانا
قال محمد بن السري: إنه توجه إلى سعيد بن حميد في حاجة له فوجده في منزل الحسن بن مخلد فقصده وإذا برسول فضل ناوله رقعة منها وفيها الأبيات التي أرسلتها إلى محمد بن العباس اليزيدي وأولها: الصبر ينقص والسقام تزيد وفي آخرها أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري فأخذ بيد ابن السري ومضيا إليها فسألها عن خبرها فقالت: هو ذا أموت وتستريح مني. فانشأ يقول:
لا مت قبلي بل أحيا وأنت معاً ... ولا أعيش إلى يوم تموتينا
لكن نعيش بما نهوى ونأمله ... ويرغم الله فينا أنف واشينا
حتى إذا قدر الرحمن ميتتنا ... وحان من أمرنا ما ليس يعدونا
متنا جميعاً كغصني بانة ذبلاً ... من بعدما نضراً واستوسقا حينا