غنائها فنزلنا أحسن ما أمر لأحد فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب صدر فريدة بها ضربة تدحرجت من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتت عودها، ومرت تعدو وتصيح، وبقيت أنا كالمنزوع الروح، ولم أشك أن عينه وقعت إلي وقد نظرت إليها، ونظرت إلى فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق فإني لكذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت.
فقال: ويحك، أرأيت أغرب مما تهيأ علينا فقلت: يا سيدي الساعة والله تخرج روحي فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله، فما كان سبب الذنب.
قال: لا والله، ولكن فكرت أن جعفرا يقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت، فسري عني وقلت: بل يقتل الله جعفراً ويحيا أمير المؤمنين أبداً وقبلت الأرض وقلت: يا سيدي، الله الله ارحمها ومربدها، فقال لبعض الخدم: الوقوف من يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها قبل، فلما رآها جذبها وعانقها فبكت وجعل هو يبكي واندفعت أنا بالبكاء.
فقال: ما ذنبي يا مولاي وبأي شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي أيضاً.
فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين غلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من هذا الفكر وأرحت نفسك من الهم بي وجعلت تبكي وهو يبكي.
ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها وأومأ إلى الخدم الوقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا أحضروا أكياساً فيها دراهم دنانير ورزما فيها ثياب كثيرة وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهره فألبسها إياه: وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا، فلم نزل كذلك إلى الليلة.
ثم تفرقنا وضرب الدهر ضربه وتقلد المتوكل فو الله إنني لفي منزلي بعد توبتي إذ هجم علي رسل الخليفة فما أمهلوني حتى ركبت, وصرت إلى الدار فأدخلت والله والحجرة بعينها وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير وإلى جانبه فريدة, فلما رآني قال: ويحك, أمل ترى ما أنا فيه من هذه أنا منذ غدوة أطالها بأن تغنيني فتأبى ذلك؟ فقلت لها: يا سبحان الله أتخالفين سيدك وسيد البشر بحياتي, غني فعرفت والله أنه تم التفاؤل ثم اندفعت تغني:
مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر فالثماد
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير, ومرت تعدو وهي تصيح: وا سيداه.
فقال لي: ويحك, ما هذا؟ فقلت: لا أدري والله يا سيدي فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى أن أنصرف أنا وتحضر هي ومعها غيرها فإن الأمر يؤل إلى ما يريد أمير المؤمنين. قال: فانصرف في حفظ الله. فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة.
وقال محمد بن عبد الملك سمعت فريدة تغني:
أخلاي بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ مما بصاحبه خلو
أذاب الهوى لحمي وجسمي ومفصلي فلم يبق إلا الروح والجسد النضو
وما من محب نال ممن يحبه ... هوى صادقاً إلا سيدخله زهو
بليت وكان المزح بدء بليتي ... فأحببت جهلاً والبلايا لها بدو
وعلقت من يزهو على تجبرا ... وإني في كل الخصال له كفو
قال: فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه. وقال عمرو بن بانة غنيت أمام الواثق يوماً
قلت خلي فاقبلي معذرتي ... ما كذا يجزي محباً من أحب