آمنة من الرملة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - يعوده كذلك فنظر إلى آمنة فقال لبشير: من هذه فقال له بشير: هذه آمنة الرملية بلغها مرضي فجاءت من الرملة تعودني فقال أحمد لبشير: فاسألها أن تدعو لنا فقال لها بشير: ادعي الله لنا. فقالت: اللهم إن بشير بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين. قال الإمام أحمد: فلما كان من الليل رأيت فيما يرى النائم أن طرحت لي رقعة من الهواء مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد رضي الله عنهم.
ولدت هذه الشهيرة بباريس سنة 1766 م، وتولت أمها تعليمها ولكنها كانت تجهل مقتضيات التربية ومراعاة حال الأولاد من حيث مزاجهم وميلهم واتجاه عواطفهم، فشددت على ابنتها فيا لتعليم، واتخذت الصرامة ديدنا في التربية والتأديب، فلذلك لم يعلق قلب ابنتها بها ولا كان لكلامها وقع في نفسها، ومن جملة ما بين ذلك أنها كانت تحب اللعب بما يشبه التشخيص في المراسح، وتميل إلى ذلك ميلا شديدا فتعمل ملوكا وملكات من الورق، وتشخص لها مواقع من فكرتها، وتتكلم في التشخيص عنها. وكانت أمها تكره المراسح والتشخيص وتمنعها من اللعب بتلك الصور غير مراعية ميلها الشديد إلى ذلك فكانت ابنتها تختبئ وتلعب خفية عنها، ولا تكاشفها بشيء مما يخطر ببالها من ذلك.
وأما أبوها: فكان أوفر من أمها حكمة وأكثر معرفة في معاملة ابنته فيلاطفها ويمازحها ويحدثها حتى تأنس إليه وتكشف له قلبها، وكان رجلا عظيما ووزيرا على مالية (لويس السادس عشر) ملك فرنسا، مهيبا بعيد الصيت والسطوة والنفوذ يختلف إلى بيته عظماء فرنسا، وعلماؤها وشعراؤها، كانت أمها تأتي بها وهي صغيرة السن إلى قاعة الاستقبال، وتجلسها على كرسي مستدير بجانبها وتوصيها من حين إلى حين بالجلوس مستقيمة لئلا تكون حدباء الظهر متى كبرت فتجلس هناك شاخصة إلى الزوار وتلتقط كل كلمة تخرج من أفواههم وتصغي أتم الإصغاء إلى أحاديثهم، وتذوق معانيهم حتى يرى الناظر من علامات وجهها أنها لا تدع فائدة تفوتها، وأنها تبتلع المعاني ابتلاعا على صغر سنها، وكانوا كلهم يحدثونها كما يحدثون كبار السن ويباحثونها فيما تعلمته ويحدثونها على درس ما لم تتعلمه، فلم تكثر عليها السنون حتى بلغت قوى عقلها مبلغا قلما تدركه العقول في سنها ولم تجيء عليها السنة الخامسة عشرة حتى شرعت في التأليف واشتد حبها للعلماء والعظماء فكان قلبها ينبض شديدا عند رؤيتهم، وصيتهم يستفزها إلى مجاراتهم ومسابقتهم، ولما بلغت عشرين سنة من عمرها شاع ذكرها في الآفاق، وانطلقت الألسنة بوصفها تزوجت بسفير أسوج في فرنسا واسمه (روستايل) سنة 1786 م فانفتح أمامها باب السياسة، وكانت في بداية عمرها تعتبر فلسفة (جان جاك روسو) اعتبارا عظيما.
ولما ابتدأت الثورة الفرنساوية وكان أبوها قد أنجد حزب الثائرين مالت إليها حاسبة أنها الطريقة الوحيدة لسعادة فرنسا ونعيمها، ولكن لما تفاقم خطبها ورأت فظائعها، وعلمت أن أحسن أهل وطنها يقتلون بها نفرت منها وجعلت همها تخليص الذين قد وقعوا في حبالها من الموت فسعت في نجاة العائلة الملكية وفرارها إلى بلاد الإنكليز، ولكنها خابت مسعى فعمدت إلى تخليص غيرهم وكانت كلما خلصت شخصا لا تستريح حتى تخلص كل من يتعلق به من الأقرباء والأصدقاء وتخاطر بنفسها لخلاص غيرها مخاطرة أعظم الناس بأسا، واتفق أن الدول المتحالفة ضيقت على الحكومة الثورية سنة 1792 م، فقال رجال هذه الحكومة: لا نأمن على أنفسنا إن لم نقتل كل من له ضلع مع الملكية في باريس فاستباحوهم قتلا ونهبا. وكان لمدام (روستايل) أصدقاء كثيرون بينهم فخلصت بواسطتهم حياة كثيرين وبقي رجل اسمه (دومونتسكيو) فعزمت على أن تخرج به من باريس كخادم لها فلقيها الثائرون في الطريق فأنزلوها من مركبها كرها