ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا، فخرج على أسوأ الحالات واغتم أشعب غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك، فأتى منزل ابن سريج ليلا فرقه. فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق، ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له: ما هذا، ويحك؟ فقص القصة عليه. فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا.
قال أشعب: فديتك هي مولاتي ولابد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته. قال أشعب: قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة علي، فالله الله في وأنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم في. فأبى عليه. فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة، فتحت آذان أهل المدينة لها ونبه الجيران من رقادهم وأقام النسا من فرشهم، ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن راعهم. فقال له ابن سريج: ويلط ما هذا؟ قال: لئن لم تسر معي إليه الأصرخن صرخة أخرى لا يبقى أحد بالمدينة إلا صار بالباب، ثم لأفتحنه ولرينهم ما بي ولأعلمنهم انك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج: أعزب - أخزاك الله.
قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثا، وهو يخير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن ما قلت لك. فما أرى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه: ويحك، أما ترى ما وقعنا فيه! وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا. فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث؟ وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رجلي على رجلك فخرجا.
فلما صار في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني. قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتغنيها سرا وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال: امض لا بارك الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخل إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء، قال: قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت: أجل، فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت؟ قالت: وأين، قال: إلى المنزل. قالت: برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثا، وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحدا. فقال عبيد: واسخنة عيناه، واذهاب ديناه وافضيحتاه، ثم اندفع يغني:
أسعتين الذي بكفيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني