ضريح مجد، وأحيت هذه المرأة بكلامها وشجاعتها شجاعة زوجها فرفض الفرار وعاد إلى التفكير والتدبير، فتيسرت له وسائل إقناع الأقوام بخطئهم فأذعنوا إليه خاضعين وبخضوعهم ذل الآخرون فتمكنت الحكومة من قهرهم وراق الوقت للملك بوستينان بسبب مشورة هذه الفاضلة وحسن آرائها.
وتسمى "لابوسل" وتعرف بالسيدة "أوريان" هي فتاة فرنساوية كانت نقية البشرة، مهفهفة القوام، دعجاء العينين، ذات شعر فاحم مسترسل على كتفيها، يلوح على محياها الصبيح سيما الحياء واللطف والدعة، وتبدو من مخايلها أمارات مضاء العزيمة، وبعد الهمة، وثبات الجأش، ولطالما امتطت الفرس فسابقت عليه وهو غير مسرج ولا مشكوم جراءة وفروسية، وكانت ذات كلام بالغ بين الرشد وأفعال دائرة على محور الاستقامة والصلاح.
ولدت في "دومرمي" من مقاطعة "لورس" سنة 1411 للميلاد من راع يدعى "جان" وكان قد رباه الفقر وهذبه الدين، فنشأت كثيرة الهواجس الدينية، ولما بلغت الخمس سنوات أخذت ترى في هجعتها رؤيا علوية زاعمة أن الملائكة والأولياء تتجلى عليها بمظهر نوراني، فلما أنس أبوها منها ذلك أراها من القسوة والعنف ما حداها إلى الفرار والانطواء إلى أرملة من ربات الفنادق، فأقامت في خدمتها زمناً تبذل عندها من الإخلاص في السعي والإقدام في العمل والعفاف في المسلك ما تذكر به فتشكر، ثم عادت إلى أبيها زمان إذ كان فرنسا على شفا حفرة من النار والإنكليز يذيقونها من حروبهم ضريع الويل الممزوج بالشنار.
وكان قد مر بقريتها فريق من الأعداء فاكتسحوها واستافوا أموالها فاقتسموها وتركوها خاوية على عروشها يندبها لسان الخراب، ويأوي إلى أطلالها البوم والغراب، فصدع فؤادها الشفاف ذل قومها وبوارهم وانكسارهم للعدو المفضي إلى دمارهم، فعاودتها الأحلام والرؤيا وزعمت أنها مأمورة بالإلهام بإنقاذهم وبلادهم من الهلكة والمعرة، وانتشال قومها من هوة الحيف والمضرة.
وبعد تردد وإعمال روية سارت إلى "شارل" ملك فرنسا، وذلك في شهر شباط سنة 1429 ميلادية وكان عليها أن تقطع مسافة 150 فرسخاً في أقطار مشحونة بدبابة الإنكليز ومحفوفة بالمكاره والأهوال حتى تبلغ مدينة "لوزين" حيث يقيم الملك فتزيت بزي فارس وعلت جوادها بعد أن تقلدت حساماً بتاراً، واخترقت تلك المهامة حتى إذا أشرفت على مقر الملك بعثت تنبئه بقدومها وتخبره بأنها ستكون منقذة العرش ورافعة الحصار عن "أوليان" وأنها ستمهد سبيل تتويجه في "رام"، فلما قدم عليه البشير بذلك النبأ ابتسم ذرياً عن قلب مشحون بالغيظ، ثم استمر مع وزرائه في شأنها ثلاثة أيام، فكان فريق يسخر منها ويضحك عليها، وفريق يذود عنها ويرى إلقاء المقاليد إليها والملك بين ذلك من حزب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء حتى أسفر الرأي عن لقائها فلبس الملك ثياب أحد أتباعه وألبسه ثوبه الملكي اختباراً لأمرها، ثم أذن لها فجاءت تخترق صفوف الحشم والحاشية حتى وقفت بإزائه فانحنت جاثية لديه قائلة له: بلسان ذرب حييت وحبيت أيها الملك الحليم؟ فقال لها: أخطأت فإن الملك هو ذاك مشيراً إلى من ألبسه ثوبه فقالت: ما الملك إلا أنت وما أنت إلا الملك وإني لمأمورة أنا العذراء المسكينة من الروح الأمين بشد أزرك والدأب لأسباب نصرك وما على الرسول إلا البلاغ، فخلا بها الملك حيناً من الدهر ثم ناجى وزراءه فقال لهم: لقد أحاطت لعمر الله بما في سرائري وأدركت مما لا يدركه بعد الله إلا ضمائري وإني