وَسَتَقَرُّ بِهِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الْعَيْنَانِ، فَخُذْ مَا نَظَرْت مِنْ حُسْنِ رَوْضِهِ الْأَسْمَى، وَدَعْ مَا سَمِعْت عَنْ الْحُسْنِ وَسَلْمَى:
خُذْ مَا نَظَرْت وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْت بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيك عَنْ زُحَلَ
هَذَا وَقَدْ أَضْحَتْ أَعْرَاضُ الْمُصَنِّفِينَ أَغْرَاضَ سِهَامِ أَلْسِنَةِ الْحُسَّادِ، وَنَفَائِسُ تَصَانِيفِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبَعْدَ اطِّلَاعِك عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَذْكُورِ تُعَايِنُ مَا ذَكَرْته لَك وَتَتَحَقَّقُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ أَفَادَهُ ط وَفِي هَذَا الْكَلَامِ اقْتِبَاسٌ مِمَّا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِيَّةِ، وَتَضْمِينٌ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا ... قَدْ حَدَّثُوك فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
(قَوْلُهُ: وَسَتُقِرُّ) الْقُرُّ: بِالضَّمِّ الْبَرْدُ، وَعَيْنُهُ تُقِرُّ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قُرَّةً وَتُضَمُّ وَقَرُورًا بَرَدَتْ وَانْقَطَعَ بُكَاؤُهَا. أَوْ رَأَتْ مَا كَانَتْ مُتَشَوِّفَةً إلَيْهِ قَامُوسٌ، وَكَأَنَّهُ وَصَفَ الْعَيْنَ بِالْبُرُودَةِ، لِمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ دَمْعَةَ السُّرُورِ بَارِدَةٌ وَدَمْعَةَ الْحُزْنِ حَارَّةٌ (قَوْلُهُ: بَعْدَ التَّأَمُّلِ) أَيْ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ ط (قَوْلُهُ: فَخُذْ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ: أَيْ إذَا كَانَ كَمَا وَصَفْتُهُ لَك أَوْ إذَا تَأَمَّلْتَهُ وَقَرَّتْ بِهِ عَيْنَاك فَخُذْ إلَخْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ هُنَا إلَى قَوْلِهِ كَيْفَ لَا وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ ابْتِدَاءَ تَبْيِيضِ إلَخْ سَاقِطٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ إلْحَاقَاتِ الشَّارِحِ، فَمَا نُقِلَ مِنْ نُسْخَتِهِ قَبْلَ الْإِلْحَاقِ خَلَا عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ: مِنْ حُسْنِ رَوْضِهِ) الْحُسْنُ الْجَمَالُ جَمْعُهُ مَحَاسِنُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ قَامُوسٌ. فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ لَا صِفَةٌ فَالْإِضَافَةُ فِيهِ لَامِيَّةٌ فَافْهَمْ، وَالْأَسْمَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ السُّمُوِّ: أَيْ الْأَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ ط: وَفِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ شَبَّهَ عِبَارَتَهُ الْحَسَنَةَ بِالرَّوْضِ بِجَامِعِ النَّفَاسَةِ وَتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِكُلٍّ وَالْقَرِينَةُ إضَافَةُ الرَّوْضِ إلَى الضَّمِيرِ (قَوْلُهُ: عَنْ الْحُسْنِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِضَمِّ الْحَاءِ، فَالْمَعْنَى دَعْ الْحُسْنَ الصُّورِيَّ الْمَحْسُوسَ وَانْظُرْ إلَى حُسْنِ رَوْضِ هَذَا الشَّرْحِ الْأَعْلَى قَدْرًا. اهـ. ح (قَوْلُهُ: وَسَلْمَى) امْرَأَةٌ مِنْ مَعْشُوقَاتِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورَاتِ كَلَيْلَى وَلُبْنَى وَسُعْدَى وَبُثَيْنَةَ وَمَيَّةَ وَعَزَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَلَمِيَّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْوَصْفِيُّ لِاشْتِهَارِهَا بِالْحُسْنِ كَاشْتِهَارِ حَاتِمٍ بِالْكَرْمِ، فَيُقَالُ فُلَانٌ حَاتِمٌ بِمَعْنَى كَرِيمٍ، فَالْمُرَادُ دَعْ الْجَمَالَ وَالْجَمِيلَ (قَوْلُهُ: فِي طَلْعَةِ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَمَا يُغْنِيك مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ؛ وَالْمَعْنَى أَنَّ طَلْعَةَ الشَّمْسِ: أَيْ طُلُوعَهَا يَكْفِيكَ عَنْ نُورِ الْكَوْكَبِ الْمُسَمَّى بِزُحَلَ، نَزَّلَ كِتَابَهُ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ بِجَامِعِ الِاهْتِدَاءِ بِكُلٍّ، وَنَزَّلَ غَيْرَهُ مَنْزِلَةَ زُحَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنْ الْكَوَاكِبِ، وَزُحَلُ أَحَدُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ الَّتِي هِيَ السَّبْعُ، جَمَعَهَا الشَّاعِرُ عَلَى تَرْتِيبِ السَّمَوَاتِ كُلُّ كَوْكَبٍ فِي سَمَاءٍ بِقَوْلِهِ:
زُحَلُ شَرَى مَرِّيخُهُ مِنْ شَمْسِهِ ... فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الْأَقْمَارُ
ط (قَوْلُهُ: هَذَا) أَيْ خُذْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته، وَأَرَادَ بِهِ الِانْتِقَالَ عَنْ وَصْفِ الْكِتَابِ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِمَا يُشَنِّعُ بِهِ حُسَّادُ الزَّمَانِ الْمُغَيِّرُونَ فِي وُجُوهِ الْحِسَانِ:
كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدًا وَلُؤْمًا إنَّهُ لَدَمِيمُ
(قَوْلُهُ أَعْرَاضُ) جَمْعُ عِرْضٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ: مَحَلُّ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ ط (قَوْلُهُ: أَغْرَاضَ) أَيْ كَالْأَغْرَاضِ خَبَرُ أَضْحَى فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْأَغْرَاضُ: جَمْعُ غَرَضٍ، وَهُوَ الْهَدَفُ الَّذِي يُرْمَى بِالسِّهَامِ، فَكَمَا أَنَّ الْغَرَضَ يُرْمَى بِالسِّهَامِ كَذَلِكَ أَعْرَاضُ الْمُصَنِّفِينَ تُرْمَى بِالْقَوْلِ الْكَاذِبِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُ الرَّمْيِ فِي نِسْبَةِ الْقَبَائِحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]- {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]- وَبَيْنَ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ الْجِنَاسُ الْمُضَارِعُ ط، وَفِي تَشْبِيهِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ بِالسِّهَامِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ الْقَرِينَةُ إضَافَتُهَا إلَى الْأَلْسِنَةِ وَالْجَامِعُ حُصُولُ الضَّرَرِ بِكُلٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ: أَيْ الْأَلْسِنَةُ الَّتِي هِيَ كَالسِّهَامِ، لَكِنَّ تَشْبِيهَ الْكَلَامِ بِالسِّهَامِ أَظْهَرُ مِنْ تَشْبِيهِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَنَفَائِسُ تَصَانِيفِهِمْ وَإِلَخْ) النَّفَائِسُ جَمْعُ نَفِيسَةٍ، يُقَالُ: شَيْءٌ نَفِيسٌ أَيْ يُتَنَافَسُ فِيهِ وَيُرْغَبُ،