وَمَنْ حَصَّلَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْحَظُّ الْوَافِرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْبَحْرُ لَكِنْ بِلَا سَاحِلٍ، وَوَابِلُ الْقَطْرِ غَيْرَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلٌ بِحُسْنِ عِبَارَاتٍ وَرَمْزِ إشَارَاتٍ وَتَنْقِيحِ مَعَانِي، وَتَحْرِيرِ مَبَانِي، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــQمَفْعُولُ تَرَكَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ جِنْسُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي الزَّمَنِ وَمَنْ تَأَخَّرَ، وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي خُطْبَةِ التَّسْهِيلِ: وَإِذَا كَانَتْ الْعُلُومُ مِنَحًا إلَهِيَّةً، وَمَوَاهِبَ اخْتِصَاصِيَّةً فَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يُدَّخَرَ لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، مَا عَسِرَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. اهـ. وَأَنْتَ تَرَى كُتُبَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَفُوقُ عَلَى كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الضَّبْطِ وَالِاخْتِصَارِ وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ وَجَمْعِ الْمَسَائِلِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ مَصْرِفُ أَذْهَانِهِمْ إلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ وَتَقْوِيمِ الدَّلَائِلِ؛ فَالْعَالِمُ الْمُتَأَخِّرُ يَصْرِفُ ذِهْنَهُ إلَى تَنْقِيحِ مَا قَالُوهُ، وَتَبْيِينِ مَا أَجْمَلُوهُ، وَتَقْيِيدِ مَا أَطْلَقُوهُ، وَجَمْعِ مَا فَرَّقُوهُ، وَاخْتِصَارِ عِبَارَاتِهِمْ، وَبَيَانِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ اخْتِلَافَاتِهِمْ، فَهُوَ كَمَاشِطَةِ عَرُوسٍ رَبَّاهَا أَهْلُهَا حَتَّى صَلَحَتْ لِلزَّوَاجِ، تُزَيِّنُهَا وَتَعْرِضُهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْفَضْلُ لِلْأَوَائِلِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

كَالْبَحْرِ يَسْقِيهِ السَّحَابُ وَمَا لَهُ ... فَضْلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ

نَعَمْ فَضْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَمْثَالِنَا مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ، رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَشَكَرَ سَعْيَهُمْ آمِينَ (قَوْلُهُ: الْحَظُّ) أَيْ النَّصِيبُ، وَالْوَافِرُ: الْكَثِيرُ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ) : تَعْلِيلٌ لِلْجُمَلِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْكِتَابِ ط (قَوْلُهُ: هُوَ الْبَحْرُ) تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَوْ اسْتِعَارَةٌ (قَوْلُهُ: لَكِنْ بِلَا سَاحِلٍ) السَّاحِلُ رِيفُ الْبَحْرِ وَشَاطِئُهُ مَقْلُوبٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ سَحَلَهُ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَسْحُولًا قَامُوسٌ، وَإِذَا كَانَ لَا سَاحِلَ لَهُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ نِهَايَةَ الْبَحْرِ سَاحِلُهُ، فَهُوَ مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ حَيْثُ أَثْبَتَ صِفَةَ مَدْحٍ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا صِفَةَ مَدْحٍ أُخْرَى نَحْوَ «أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ» ، وَهُوَ آكَدُ فِي الْمَدْحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَدْحِ عَلَى الْمَدْحِ وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ صِفَةَ ذَمٍّ يَسْتَثْنِيهَا فَاضْطَرَّ إلَى اسْتِثْنَاءِ صِفَةِ مَدْحٍ. وَلَهُ نَوْعٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ صِفَةِ ذَمٍّ مَنْفِيَّةٍ عَنْ الشَّيْءِ صِفَةَ مَدْحٍ، كَقَوْلِهِ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أَيْ فِي حَدِّهِنَّ كَسْرٌ مِنْ مُضَارَبَةِ الْجُيُوشِ، وَهَذَا الثَّانِي أَبْلَغُ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ فَافْهَمْ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الْإِغْرَاقُ، حَيْثُ وَصَفَ الْبَحْرَ بِمَا هُوَ مُمْكِنٌ عَقْلًا مُمْتَنِعٌ عَادَةً (قَوْلُهُ: وَوَابِلُ الْقَطْرِ) الْوَابِلُ: الْكَثِيرُ، وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ: أَيْ الْقَطْرُ الْوَابِلُ ط (قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ مُتَوَاصِلٌ) أَيْ تَوَاصُلًا نَافِعًا غَيْرَ مُفْسِدٍ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَإِلَّا كَانَ ذَمًّا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ (قَوْلُهُ: بِحُسْنِ عِبَارَاتٍ) الْبَاءُ لِلتَّعْلِيلِ مِثْلُ - فَبِظُلْمٍ - أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ مِثْلُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ - أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَحْرِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ: أَيْ الْوَاسِعُ مِثْلُ حَاتِمٍ فِي قَوْمِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ

لِتَأَوُّلِهِ بِكَرِيمٍ وَجَرِيءٍ أَوْ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي لِأَنَّهُ أَوْ مِنْ كِتَابِي (قَوْلُهُ: وَرَمْزِ إشَارَاتٍ) هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ: وَهُوَ الْإِيمَاءُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْيَدِ أَوْ نَحْوِهِمَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَلْطَفَ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ وَأَخْفَاهَا كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: مُعْتَمِدًا فِي دَفْعِ الْإِيرَادِ أَلْطَفَ الْإِشَارَةِ. (قَوْلُهُ: وَتَنْقِيحِ مَعَانِي) أَيْ تَهْذِيبِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَتَحْرِيرِ مَبَانِي. وَفِي الْقَامُوسِ: تَحْرِيرُ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ تَقْوِيمُهُ اهـ وَمَبَانِي الْكَلِمَاتِ: مَا تُبْنَى عَلَيْهِ مِنْ الْحُرُوفِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ، مِنْ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْمَعَانِي وَالْمَبَانِي مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ: وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ، لَا بِالتَّضَادِّ نَحْوَ - {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]- ثُمَّ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ رَسْمُهَا بِالْيَاءِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ حَذْفُهَا، وَالْوَقْفُ عَلَى النُّونِ سَاكِنَةً مِثْلُ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]- (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَهَذِهِ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ: أَيْ أَنَّ مَا قُلْته خَبَرٌ يَحْتَمِلُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015