وَيَأْبَى اللَّهُ الْعِصْمَةَ لِكِتَابٍ غَيْرَ كِتَابِهِ، وَالْمُنْصِفُ مَنْ اغْتَفَرَ قَلِيلَ خَطَأِ الْمَرْءِ فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ، وَمَعَ هَذَا فَمَنْ أَتْقَنَ كِتَابِي هَذَا فَهُوَ الْفَقِيهُ الْمَاهِرُ، وَمَنْ ظَفَرَ بِمَا فِيهِ، فَسَيَقُولُ بِمِلْءِ فِيهِ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْله تَعَالَى - {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر: 27]- (قَوْلُهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ الْعِصْمَةَ إلَخْ) أَبَى الشَّيْءَ يَأْبَاهُ وَيَأْبِيهِ إبَاءً وَإِبَاءَةً بِكَسْرِهِمَا كَرِهَهُ قَامُوسٌ. وَهَذَا اعْتِذَارٌ مِنْهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ إنَّ هَذَا الْكِتَابَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا حَرَّرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَعَلَى التَّحْقِيقَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ. أَيْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ فِيهِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ، أَوْ لَمْ يُقَدِّرْ الْعِصْمَةَ لِكِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي قَالَ فِيهِ - {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]- فَغَيْرُهُ مِنْ الْكُتُبِ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، لِأَنَّهَا مِنْ تَآلِيفِ الْبَشَرِ وَالْخَطَأُ وَالزَّلَلُ مِنْ شِعَارِهِمْ. [تَنْبِيهٌ] قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ النَّجَّارِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى أُصُولِ الْإِمَامِ الْبَزْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: رَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنِّي صَنَّفْت هَذِهِ الْكُتُبَ فَلَمْ آلُ فِيهَا الصَّوَابَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ، كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]- فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي رَاجِعٌ عَنْهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُزَنِيّ: قَرَأْت كِتَابَ الرِّسَالَةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ثَمَانِينَ مَرَّةً، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَكَانَ يَقِفُ عَلَى خَطَأٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيهِ، أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا صَحِيحًا غَيْرَ كِتَابِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ: قَلِيلَ. خَطَأِ الْمَرْءِ) أَيْ خَطَأَ الْمَرْءِ الْقَلِيلِ. فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ. وَعَبَّرَ بِالْخَطَأِ إشَارَةً إلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ. فَالْإِثْمُ مَرْفُوعٌ وَالثَّوَابُ ثَابِتٌ ط (قَوْلُهُ: فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الْخَطَأِ: أَيْ الْخَطَأَ الْقَلِيلَ كَائِنًا فِي أَثْنَاءِ الصَّوَابِ الْكَثِيرِ أَوْ بِاغْتَفَرَ. وَفِي بِمَعْنَى مَعَ. أَوْ لِلتَّعْلِيلِ أَفَادَهُ ط. وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَخَطَإٍ وَصَوَابٍ مِنْ الطِّبَاقِ (قَوْلُهُ: وَمَعَ هَذَا) أَيْ مَعَ مَا حَوَاهُ مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّحْقِيقَاتِ. اهـ. ح. قُلْت: وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ مُرْتَبِطًا بِقَوْلِهِ وَيَأْبَى اللَّهُ. أَيْ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ مِنْ الْخَلَلِ فَمَنْ أَتْقَنَهُ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ بَخِيلٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ فُلَانٍ ط (قَوْلُهُ: فَهُوَ الْفَقِيهُ) الْجُمْلَةُ خَبَرٌ مَنْ قُرِنَتْ بِالْفَاءِ لِعُمُومِ الْمُبْتَدَأِ فَأَشْبَهَ الشَّرْطَ. وَالْمُرَادُ بِالْفَقِيهِ مَنْ يَحْفَظُ الْفُرُوعَ الْفِقْهِيَّةَ وَيَصِيرُ لَهُ إدْرَاكٌ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْفِقْهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا ط (قَوْلُهُ: الْمَاهِرُ) أَيْ الْحَاذِقُ قَامُوسٌ (قَوْلُهُ: وَمَنْ ظَفَرَ) فِي الْقَامُوسِ: الظَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ ظَفَرَهُ وَظَفَرَ بِهِ وَعَلَيْهِ (قَوْلُهُ: بِمَا فِيهِ) أَيْ مِنْ التَّحْرِيرَاتِ وَالتَّحْقِيقَاتِ وَالْفُرُوعِ الْجَمَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْمُهِمَّةِ (قَوْلُهُ: فَسَيَقُولُ) أَتَى بِسِينِ التَّنْفِيسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ السُّؤَالِ أَوْ لِلنَّاظِرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ غَالِبًا، أَوْ أَنَّهَا زَائِدَةٌ أَفَادَهُ ط أَوْ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي حَرَّرَهَا غَيْرُهُ وَطَوَّلَهَا بِنَقْلِ الْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّعْلِيلَاتِ الشَّهِيرَةِ، وَخِلَافِيَّاتِ الْمَذَاهِبِ وَالِاسْتِدْلَالَات مِنْ خُلُوِّهَا مِنْ تَكْثِيرِ الْفُرُوعِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْهَا كَغَالِبِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا. فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الشَّرْحَ هُوَ الدُّرَّةُ الْفَرِيدَةُ الْجَامِعُ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، وَلِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ. (قَوْلُهُ: بِمِلْءِ فِيهِ) الْمِلْءُ بِالْكَسْرِ: اسْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْإِنَاءُ إذَا امْتَلَأَ وَبِهَاءٍ هَيْئَةُ الِامْتِلَاءِ وَمَصْدَرُهُ مِلْءٌ قَامُوسٌ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ الْكَلَامَ الصَّرِيحَ الَّذِي يَسْتَحْسِنُهُ قَائِلُهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَلَا يَتَحَاشَى عَنْ الْجَهْرِ بِهِ بِمَا يَمْلَأُ الْإِنَاءَ بِجَامِعِ بُلُوغِ كُلٍّ إلَى النِّهَايَةِ أَوْ مَكْنِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ الْفَمَ بِالْإِنَاءِ وَالْمِلْءُ تَخْيِيلٌ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ جَهْرًا بِلَا تَوَقُّفٍ وَلَا خَوْفٍ مِنْ تَكْذِيبِ طَاعِنٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِيهِ وَفِيهِ الْجِنَاسُ التَّامُّ (قَوْلُهُ: كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ) مَقُولُ الْقَوْلِ وَكَمْ خَبَرِيَّةٌ لِلتَّكْثِيرِ