أما حديث أبي هريرة الذي يفيد أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر المسلمين ألا يصدقوهم، ولا يكذبوهم، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب مما يكون محتملًا للصدق والكذب؛ إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين السالم من التحريف وغيره، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: وخصص النهي هذا في هذا الحديث بقوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)) إلى آخره، ولذلك نبه على هذا الإمام الشافعي أيضًا فقال: وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك.
أما الحديث الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو، والذي يفيد أن النبي أباح للمسلمين أن يحدثوا عن بني إسرائيل، فهذه الإباحة بعد أن أصبح المسلمون لا يُخشى عليهم مما عند أهل الكتاب من أخبارهم، وإباحة التحدث عن بني إسرائيل إنما تنصرف إلى المسكوت عنه في شرعنا، ويحتمل الصدق والكذب، وعلى ذلك يحمل حديث عبد الله بن عمرو من الزاملتين اللتين أصابهما الكتيبين الذين وجدهما يوم اليرموك، أما ما يقطع بصدقه أو كذبه، فلا يحمل عليه هذا الإذن.
وقال الشافعي -رحمه الله-: من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجيز التحدث بالكذب، فقوله: ((حدثوا عن بني إسرائيل)) أي: بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه، فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم)) ولا يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه.
مما تقدم نستنج أن الحكم تدرج من المنع إلى التوقف، ثم إلى الإذن بالحديث عنهم فيما لا يعلم صدقه أو كذبه، وكل مرحلة من هذه المراحل كان لها ما يدعو إليها، قال العلامة ابن حجر، يوفق بين تلك المراحل الثلاث: وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية؛ خشيةَ الفتنة، ثم لما زال المحظور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.