ومع ما ذكرنا من قول المحققين في القصة؛ فالإمام ابن حجر حكمت الصنعة والقواعد الاصطلاحية عليه؛ فقال: القصة سندها صحيح، وجعل لها أصلًا هكذا قال في (الفتح) ولكن الحق: إن كان سندها صح في بعض الروايات؛ فالمتن لا محالة يخالف العقل والنقل، فإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما فيها على احتمال ما يقول ابن حجر؛ لأن فيها ما يستنكر، وهو قولهم: إن الشيطان ألقى على لسان النبي تلك الغرانيق العلا؛ فهذا لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يرد على لسانه لفظٌ أو حرف أو يزيد في القرآن شيئًا ليس منه لا عمدًا ولا سهوًا؛ لأن ذلك يخالف العصمة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يرتل القرآن ترتيلًا؛ فهذا الكلام الذي ذهب إليه البعض كلامٌُ غير صحيح والقصة مختلقة، ومردود عليها، ولم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح.
من هنا نستطيع أن نقول: فما معني الآية إذًا: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} (الحج: 52) فالإجابة: ذكر العلماء الأئمة في تفسيرها وجهين؛ الأول: أن التمني بمعني القراءة، ورد في (صحيح البخاري) تعليقًا إلا أنه جعله مرجوحًا لا راجحًًا، وهو تفسير التمني بالتشهي وبالقراءة؛ إلا أن الإلقاء لا بالمعنى الذي ذكره هؤلاء المبطلون بل بمعني إلقاء الأباطيل والشبه، مما يحتمله الكلام؛ فالشيطان يلقي الأباطيل والشبه، ولا يكون مرادا للمتكلم، ولا يحتمله، ولكن يُدَّعَي أن ذلك يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان حينئذ؛ لأنه يثير الشبهات بالوساوس والعراقيل؛ فيكون المعني: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حَدث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أنزل الله فيه هداية لهم قام في وجهه مشاغبون معارضون يتقوَّلُونَ عليه ما لم يَقُلْهُ، ويحرِّفُون الكَلِمَ عن مواضعِهِ، وينشرون ذلك بين الناس، ولا يزال الأنبياء يجاهدونهم ويجاهدون في سيبل الحق حتى ينتصر؛ فينسخُ الله ما يلقي الشيطان