في يوم القيامة كل الخلائق ينظرون إليك، وما عملت من عمل مستتراً به في الدنيا يصبح مكشوفاً أمام الناس جميعاً؛ نسأل الله أن يسترنا دنيا وأخرى.
سيدنا عمر لما نقض وضوءه على المنبر قال: أيها الناس! على مصافكم، ثم نزل وعاد وآثار الوضوء يقطر من أطرافه، فقال: لقد نقض وضوء إمامكم فذهبت فتوضأت، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! ما كان يلزمك أن تقول ذلك، قال: يا علي! فضوح الدنيا أهون عند الله من فضوح الآخرة.
إن الذي يتتبع عورات المسلمين يفضحه الله سبحانه ولو في جوف بيته، ثم يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، لكن فضيحة الآخرة ليس بعدها فضيحة، وكان سيدنا أبو بكر يقول: اللهم يا من سترت في الدنيا! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، آمين يا رب.
فالعملية صعبة وكل الناس ينظرون، وبعد ذلك تقف أمام الله، فيقال: (أخرجوا له أعماله) ويقال: (لن تظلم اليوم شيئاً) ويخرج له من تحت العرش تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر مكتوب فيه كل صغيرة وكبيرة، وقالوا: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
فيطلع العبد على هذه السجلات صفحة صفحة قال رجل لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد يوم القيامة على كثرة عددهم؟ قال له: كما يرزقهم على كثرة عددهم، فكما أنه يرزقهم في الدنيا رغم كثرة العدد فإنه سوف يحاسبهم يوم القيامة رغم كثرة العدد، وأنت الآن أيها العبد! لا تذكر إلا القليل القليل وقد نسيت الكثير الكثير.
قال الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]، وقال تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، وقال تعالى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52].
يحكى: أن الحسن البصري بكى لما قرأ الآية: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] قال: ضجوا من الصغائر قبل الكبائر، فكل شيء مكتوب سواء غفرت أو لم تغفر، فكل شيء يكتبه ملك الحسنات وملك السيئات، إلا دائم التوبة إلى الله سبحانه، فإنه سبحانه من رحمته ينسي الملك الذي يكتب السيئات وينسي الأرض والليل والنهار والشمس والقمر والجوارح فلا يذكر ذنوب التائب إلا الله، وما دام أنه وحده هو الشاهد والشهيد فسوف يغفر لك؛ لأنه ستار حليم.
وحين يكشف للعبد أعماله يطلع على سيئات كثيرة فيخاف، وينظر في الصفحة الثانية فيرى حسنات قليلة ويزيد خوفه، فيقال: إن عبدك فلاناً كان في الدنيا لا يفضح عورة أحد، ولا ينشر سر أحد، ولا يتجسس على عورات الناس، بل كان يحفظ حرمات الناس، فيغفر الله له ما كان من ذنوب في حقه سبحانه، ويدخله الجنة.
يقول الله سبحانه للعبد: (عبدي! هل اطلعت فيقول: نعم يا رب! اطلعت، فيقول الله له: يا عبدي! ألك حسنة مخفية؟ فيقول: لا يا رب، كل شيء مكتوب، فيقول الله: هذه غيبة الذين اغتابوك، وظلم الذين ظلموك، ودعاء الذين دعوا لك بالخير، ودعاء الملائكة لك في جنح الليل وأنت نائم، وكرم الله عليك في الدنيا وضعناه في كتاب حسناتك)، كذلك ولد صالح وعلم ينتفع به، وبناء مسجد، وغير ذلك.
وبعدما يطلع الناس على الحسنات والسيئات ينادى: يا أهل المحشر! -فينصتون- هذا فلان ابن فلان فمن كان له عنده مظلمة فليأت، فيأتون إليه فمنهم من يقول: بعتني سلعة فغششتني، وذاك يقول: رأيتني مظلوماً وكنت تستطيع أن تنصرني فما نصرتني، وذاك يقول: مررت مرة فلم تسلم علي، وذاك يقول: عطست مرة فحمدت الله فلم تقل لي: يرحمك الله، وذاك: مرضت مرة فلم تعدني، وذاك يقول: أعنتك بشيء وكنت تستطيع أن تقضيه فلم تقضه، وهكذا حتى لو بقيت حسنة في كتاب الحسنات أحبطت بالرياء والغش والسوء، وأخذها الخصماء عوضاً عن حقوقهم.
يقول الله: (يا عبدي! ألك حسنة مخفية؟ فيقول: لا يا رب، يقول الله: هل ظلمك حفظتي) أي: هل الملائكة كتبوا عليك سيئات جزافاً؟ وهذا غير ممكن، بل إن العبد الصالح تستغفر له الملائكة وهو نائم، فيجيب العبد ويقول: لا يا رب! أي: أنا مقر بما كتب.
ومن رحمة الله عليك كما قلنا أن جعل ملك الحسنات رئيساً على ملك السيئات، فإن عملت خطأً فإن ملك السيئات مكلف بكتابتها، لكن ملك الحسنات يقول له: انتظر وأمهله حتى يتوب، وفي نفس الوقت يستغفر له ملك الحسنات ويدعو الله له أن ينبهه ويجعله من المستغفرين، فإن تبت فإن الله ينسي ملك السيئات، فيأتي التائب يوم القيامة وليس عليه سيئة، طالما صلحت سريرته، فالله عز وجل يمدح المؤمنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، واللمم: صغائر الذنوب يستغفر منها العبد أولاً بأول، ما بين الصلاة والصلاة، وما بين الجمعة إلى الجمعة، ومن رمضان إلى رمضان، وما بين عمرة إلى عمرة، وما بين حج إلى حج، وما بين درس علم إلى درس علم آخر، كذلك قيام ليل أو صيام نهار أو صدقة، فكل هذه الأعمال الصالحة تمسح السيئات واللمم، ولكن لا بد أن يحذر الإنسان من المواظبة على الصغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على ابن آدم حتى يهلكنه) فمحقرات الذنوب مسألة خطيرة، ولا تنظر إلى صغر ذنبك ولكن انظر إلى عظم من تعصيه.
يا مؤمن أنت في بعض الأمور لا تستطيع أن تفعلها أمام طفل صغير عمره سنتان، وربما حقك الشرعي في بيتك لا تقدر أن تعمله أو تمارسه في وجود طفل صغير السن.
فما بالك وأنت تعصي الله عز وجل، وتظن أنك إن أغلقت الباب لن يراك أحد؟ فإن فعلت ذلك فقد غررت وغرك بالله الغرور وظننت ألا يراك أحد.
يحكى: أن عالماً كان عنده ثلاثة أولاد، فقال: يا ترى من سيمسك الإمامة من بعدي؟ فأحب أن يمتحن أولاده، فقال لهم: ليأخذ كل واحد منكم ديكاً، ويذبحه في مكان لا يراه فيه أحد، فأغلق الأول والثاني أبوابهما وكل منهما ذبح ديكه، وجاء الثالث بالديك ضاحكاً، فقال له أبوه: يا بني! لم لم تذبح الديك؟ قال: كلما غلقت الأبواب على نفسي رأيت الله معي، فالذي لا يريد أن يتوب عليه أن يذكر كلام إبراهيم بن أدهم رحمه الله للرجل الذي لم يرض أن يتوب.
قال الرجل لـ إبراهيم بن أدهم: إني أعاني من مرض مستعصٍ، فقال له إبراهيم: إنني منشغل عنك، قال: بل علاجي عندك، قال إبراهيم: فأخبرني ما مرضك؟ قال: مرضي كلما أردت أن أتوب عدت إلى الذنوب، قال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه، قال: لا، هذا تعجيز فلا يخفى على الله خافية في كل مكان، هات الثاني.
قال له: إن أردت أن تعصي الله فاعصه في ملك غير ملكه؛ قال: لا، هذه أصعب من سابقتها، وهل هناك ملك غير ملك الله؟! هات الثالثة.
قال: إن أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه، قال: إذا لم آكل من رزق الله فمن أين آكل؟ هذه أصعب من سابقتها، هات الرابعة.
قال: إن جاءك ملك الموت فقل له: أخرني حتى أتوب، قال: لا، هذه أصعب، فهات الخامسة.
قال: إذا أردت أن تعصي الله وجاءك الملائكة ليأخذوك للحساب فلا تذهب معهم، فقال هذا الرجل: أشهد الله أمامك أني قد تبت إليه توبةً خالصةً نصوحاً، فلا بد للإنسان أن يتوب قبل فوات الأوان، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
ويقول الله: (يا عبدي! هل ظلمك حفظتي؟ يقول: لا يا رب! لم يظلموني، فيقول الله: ألك عذر تعتذر إلينا به؟).
ولو جئنا لأصحاب الأعذار وسألنا واحداً منهم: لم لم تكن تصلي؟ قال: لم يكن هناك ماء حتى أتوضأ، نقول له: كذبت، يقول: لم يكن عندنا سجادة، تقول له: صلِّ على الأرض، يقول: لم تكن الأرض طاهرة، تقول له: صلِّ في مكان آخر، يقول: لا أستطيع أن أقرأ سورة من القرآن، تقول له: اقرأ الفاتحة، يقول لك: لا أتقن قراءة الفاتحة، فتقول له: قف وصلِّ مثلما يصلون، فليس لك عذر أبداً.
ولو سألنا امرأة غير متحجبة: لم لم تحتجبي؟ تقول: والله لو تحجبت لطلقني زوجي، فلو طلقك كان هذا خيراً لك، وستتزوجين رجلاً يحافظ عليك ولا يرضى أن يكون ديوثاً، فتأتي بعذر أقبح وتقول: شكلي ليس جميلاً في الحجاب، فإن قلت لها: أنت في البيت لست محجبة، فتقول لك: العلماء الذين يقولون: حلال وحرام، هم كذا وكذا، وفي آخر الأمر غير المحجبة ليس لها عذر.
وإن قلت لحامل الأثقال أو لاعب الجودو: لم لم تكن تصلي؟ سيقول: إن الرياضة تأخذ كل وقتي، وهذا ليس عذراً.
وإن قلت لصاحب المال: لم لم تكن تزكي؟ هل مال المال بك عن الحق؟! سيقول: السبب كذا وكذا، فلن يقبل الله منه عذراً في ذلك اليوم.
يؤتى بالأغنياء يوم القيامة، فيقال لهم: لم كنتم لا تصلون في الدنيا؟ يقولون: شغلتنا أموالنا وأهلونا، فيقال لهم: أأنتم كنتم أغنى أم سليمان بن داود؟ يقولون: بل سليمان كان أغنى، فيقال: ما شغله ماله عن ذكر الله.
وسأل شاباً يافعاً حسن الصورة: لم لم تكن تصلي؟ يقول: أنا ما زلت شباباً، فتقول: أأنتم أنضر شباباً أم يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ يقول: بل يوسف عليه السلام أنضر، فتقول: يوم القيامة يقال لك: ما شغله شبابه وجماله عن ذكر الله، بل قال: رب! السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.
إن الرجل الصالح في هذا الزمان تشدد عليه الرقابة من قبل الدولة، فترى شخصاً يلازمه مثل ظله ومعه هاتفه وسيارته فإذا بدأ الرجل يخف قليلاً عن الذهاب للمساجد، خفت عليه الرقابة قليلاً، وإن التقى بالأصحاب في القهوة أغلقت الرقابة نهائياً، فإذا بدأ يلعب طاولة كتبوا على الملف: استقام وصلح حاله، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ويؤتى بالفقير، يوم القيامة فيقال له: لم لم