لتغيرت كَمَا تغير غَيرهَا من اللُّغَات، وكما كَانَ يعروها التَّغْيِير من قبله. ولولاها لتباعدت الأفهام فِي فهمه، ولصار أديانا يكفّر أَهلهَا بَعضهم بَعْضًا، وَلَا يَجدونَ أصلا جَامعا يتحاكمون إِلَيْهِ إِذا رجعُوا إِلَى الْحق وَتركُوا الْهوى، فاللغة الْعَرَبيَّة لَيست خَاصَّة بجيل الْعَرَب سلائل يَعْرُب بن قحطان بل هِيَ لُغَة الْمُسلمين كَافَّة، ولغة شعوب أُخْرَى من غيرالعرب، وَطَوَائِف من الْعَرَب غير الْمُسلمين، وَمَا خدم الْإِسْلَام أحد من غير الْعَرَب إِلَّا بِقدر حظهم من لغته، وَلم يكن أحد من الْعَرَب فِي النّسَب يفرق بَين سيبوَيْه الْفَارِسِي النّسَب وأستاذه الْخَلِيل الْعَرَبِيّ فِي فضلهما واجتهادهما فِي خدمَة اللُّغَة، وَلَا بَين البُخَارِيّ الْفَارِسِي وأستاذيه أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَق بن رَاهْوَيْةِ العربيين فِي خدمَة السّنة، بل لم يخْطر فِي بَال أحد من سلف الْأمة وَلَا خلفهَا قبل هَذَا الْعَصْر أَن يَأْبَى تَفْضِيل كثير من الْأَعَاجِم فِي النّسَب على بعض أقرانهم وأساتذتهم من الْعَرَب فِيمَا امتازوا بِهِ من خدمَة هَذَا الدّين ولغته، وَلَا نَعْرِف أحدا من عُلَمَاء الْأَعَاجِم لَهُ حَظّ من خدمَة الْإِسْلَام وَهُوَ يجهل لغته، وَلَوْلَا أَن ظلّ عُلَمَاء الدّين فِي جَمِيع الشعوب الإسلامية مُجْمِعِينَ على التَّعَبُّد بِقِرَاءَة الْقُرْآن المعجز للبشر بأسلوبه الْعَرَبِيّ وأذكار الصَّلَاة وَغَيرهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ومدارسة التَّفْسِير والْحَدِيث بِالْعَرَبِيَّةِ لضاع الْإِسْلَام فِي الْأَعَاجِم مِنْهَا.
وَلَو أَن الدولة العثمانية أحيت اللُّغَة الْعَرَبيَّة فِيمَا فَتحته من أوروبة لانتشر فِيهَا الْإِسْلَام ثمَّ فِيمَا جاورها انتشارا عَاما، ولقامت فِيهَا مَدَنِيَّة إسلامية كمدنية الْعَرَب فِي الأندلس وَكَانَ رسوخها فِيهَا عَظِيما، وَلكنهَا لم تفعل ذَلِك وَلم تجْعَل لغتها التركية لُغَة علم وفنون بل اعتمدت فِي حكمهَا على قُوَّة السَّيْف وَحده، فَكَانَ من غوائل ذَلِك - وَهِي كَثِيرَة - أَن جَمِيع الشعوب الَّتِي خضعت لسيادتها وسلطانها ظلت مُحَافظَة على لغاتها حَتَّى الْمُسلمين مِنْهُم. . فَلَمَّا تَجَدَّدَتْ فِي هَذَا الْعَصْر عصبية اللُّغَة، وَجعل التّرْك العثمانيون لغتهم لُغَة علم أَرَادوا أَن يكرهوا الشعوب الإسلامية فِي سلطنتهم على ترك لغاتهم إِلَى لُغَة الدولة فَامْتنعَ الْجَمِيع عَلَيْهِم، وهب أَصْحَاب اللُّغَات غير العلمية الْمُدَوَّنَة كالألبانيين والكرد والجركس إِلَى تدوين لغاتهم وَجعلهَا لُغَة علم وفنون كَمَا فعل التّرْك، وَقد حَارَبت الدولة الألبانيين وهم أعظم حصونها فِي أروبة لأجل اللُّغَة، فَاخْتَارُوا حربها وَالْخُرُوج من سلطنتها على ترك لغتهم، وَلَو رضيت لنَفسهَا لُغَة الْإِسْلَام ودعتهم إِلَيْهَا لما أَبَوا، وَهَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الَّتِي فرقت بَين التّرْك وَالْعرب